مع الشروق .. قمّة بكين ... وبداية تشكّل نظام دولي جديد    انطلاقا من غرة جوان: 43 د السعر الأقصى للكلغ الواحد من لحم الضأن    رئيس الحكومة يستقبل المدير العام للمجمع السعودي "أكوا باور"    توقيع مذكرة تفاهم تونسية سعودية لتطوير مشروع إنتاج الهيدروجين الأخضر في تونس    شهداء وجرحى في قصف لقوات الاحتلال على مدينة غزة..    بطاقتا إيداع بالسجن ضد أجنبيين تورّطا في تنظيم عمليات دخول أفارقة لتونس بطرق غير نظامية    بداية من اليوم: خدمة جديدة للمنخرطين بال'كنام' والحاصلين على الهوية الرقمية    صفاقس: إيقاف 21 افريقيا وصاحب منزل أثر معركة بالاسلحة البيضاء    جنيف: وزير الصحة يؤكد أهمية تعزيز قدرات الدول الإفريقية في مجال تصنيع اللّقاحات    عاجل/ هذا ما قرّرته 'الفيفا' بشأن المكتب الجامعي الحالي    وزارة الصناعة: توقيع اتفاقية تعاون بين أعضاء شبكة المؤسسات الأوروبية "EEN Tunisie"    مفقودة منذ سنتين: الصيادلة يدعون لتوفير أدوية الإقلاع عن التدخين    كلاسيكو شوط بشوط وهدف قاتل    أول تعليق من نيللي كريم بعد الانفصال عن هشام عاشور    بالفيديو: بطل عالم تونسي ''يحرق'' من اليونان الى إيطاليا    مراسم استقبال رسمية على شرف رئيس الجمهورية وحرمه بمناسبة زيارة الدولة التي يؤديها إلى الصين (فيديو)    عاجل/ فرنسا: إحباط مخطّط لمهاجمة فعاليات كرة قدم خلال الأولمبياد    وزارة المرأة تحذّر مؤسسات الطفولة من استغلال الأطفال في 'الشعوذة الثقافية'    بن عروس: حجز أجهزة اتصالات الكترونيّة تستعمل في الغشّ في الامتحانات    بطاقة إيداع بالسجن ضدّ منذر الونيسي    مجلس نواب الشعب: جلسة استماع حول مقترح قانون الفنان والمهن الفنية    رئيس لجنة الفلاحة يؤكد إمكانية زراعة 100 ألف هكتار في الجنوب التونسي    المنتخب الوطني يشرع اليوم في التحضيرات إستعدادا لتصفيات كأس العالم 2026    النادي الصفاقسي في ضيافة الاتحاد الرياضي المنستيري    الرئيس الصيني يقيم استقبالا خاصا للرئيس قيس سعيّد    قبلي : تنظيم اجتماع تشاوري حول مستجدات القطاع الثقافي وآفاق المرحلة القادمة    وزير التعليم العالي: نحو التقليص من الشعب ذات الآفاق التشغيلية المحدودة    عاجل/ حريق ثاني في حقل قمح بجندوبة    مستشفى الحبيب ثامر: لجنة مكافحة التدخين تنجح في مساعدة 70% من الوافدين عليها على الإقلاع عن التدخين    منظمة الصحة العالمية تمنح وزير التعليم العالي التونسي ميدالية جائزة مكافحة التدخين لسنة 2024    صفاقس: وفاة امرأتين وإصابة 11 راكبا في اصطدام حافلة ليبية بشاحنة    تطاوين: البنك التونسي للتضامن يقرّ جملة من التمويلات الخصوصية لفائدة فلاحي الجهة    بمشاركة اكثر من 300 مؤسسة:تونس وتركيا تنظمان بإسطنبول أول منتدى للتعاون.    رولان غاروس: إسكندر المنصوري يتأهل الى الدور الثاني لمسابقة الزوجي    الشايبي يُشرف على افتتاح موسم الأنشطة الدّينية بمقام سيدي بالحسن الشّاذلي    الدخول إلى المتاحف والمواقع الأثرية والتاريخية مجانا يوم الأحد 2 جوان    آخر مستجدات قضية عمر العبيدي..    الانتقال الطاقي: مشروع للضخ بقدرة 400 ميغاواط    انتخاب التونسي صالح الهمامي عضوا بلجنة المعايير الصحية لحيوانات اليابسة بالمنظمة العالمية للصحة الحيوانية    رولان غاروس: أنس جابر تواجه اليوم المصنفة 34 عالميا    حادث مروع بين حافلة ليبية وشاحنة في صفاقس..وهذه حصيلة الضحايا..#خبر_عاجل    بعد الظهر: أمطار ستشمل هذه المناطق    جبنيانة: الإطاحة بعصابة تساعد الأجانب على الإقامة غير الشرعية    الرابطة المحترفة الأولى: مرحلة تفادي النزول – الجولة 13: مباراة مصيرية لنجم المتلوي ومستقبل سليمان    الأوروغوياني كافاني يعلن اعتزاله اللعب دوليا    عاجل/بعد سوسة: رجة أرضية ثانية بهذه المنطقة..    إلغاء بقية برنامج زيارة الصحفي وائل الدحدوح إلى تونس    تونس والجزائر توقعان اتفاقية للتهيئة السياحية في ظلّ مشاركة تونسية هامّة في صالون السياحة والأسفار بالجزائر    بنزرت: الرواية الحقيقية لوفاة طبيب على يدي ابنه    الإعلان عن تنظيم الدورة 25 لأيام قرطاج المسرحية من 23 إلى 30 نوفمبر 2024    منبر الجمعة .. لا يدخل الجنة قاطع صلة الرحم !    مواطن التيسير في أداء مناسك الحج    من أبرز سمات المجتمع المسلم .. التكافل الاجتماعي في الأعياد والمناسبات    شقيقة كيم: "بالونات القمامة" هدايا صادقة للكوريين الجنوبيين    محكمة موسكو تصدر قرارا بشأن المتهمين بهجوم "كروكوس" الإرهابي    مدينة الثقافة.. بيت الرواية يحتفي ب "أحبها بلا ذاكرة"    الدورة السابعة للمهرجان الدولي لفن السيرك وفنون الشارع .. فنانون من 11 بلدا يجوبون 10 ولايات    عندك فكرة ...علاش سمي ''عيد الأضحى'' بهذا الاسم ؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ارفعوا أيديكم عن المسيحيّين العرب...
نشر في الشروق يوم 11 - 01 - 2011

ذكّرتْنِي صيحاتُ مسيحيّي الغرب من عديد المستويات والأصعدة لحماية المسيحيّين العرب
وذكّرتْني التعليقاتُ التي ركبتْ على حادثة كنيسة القدّيسيْن القبطيّة في مصر ( وهي تعليقاتٌ متضاربة لتقاطعِ المصالح واختلاف المنطلقات والغايات..) بكتاب خطير جدّا صادر باللغة الفرنسيّة عُنْوانُهُ: حياةُ مسيحيّي الشرق وموتُهم.
الكتابُ جاء في 973 صفحة وقد أفْرغ فيه مؤلِّفُه جامَ غضبه وكلَّ حقْده على المسلمين باطلاق، واتهمهم ،جميعا، وبدون استثناء، بالعمل على السعي المُعْلَن والمُضْمَر الى ابادة مخالفيهم في الديانة ،وفي مقدّمتهم مسيحيّو الشرق.
والكتاب على أهمّيته، وقيمته التوثيقيّة والتحليلية وتنوّع فهارسه ومصادره ومراجعه، لم يَخْلُ من مبالغات وتضخيم وقراءة مُتحاملة لبعض الوقائع والأحداث ودعوة مسيحييّ الشرق بصورة غير مباشرة حينا، وصريحة حينا آخر، لترْك البلاد والعباد بمثل قوله: «وبدون أن يلْفَظَهُم (أي المسيحيين) العالَمُ الذي ينحدرون منه فهو يمنع نفوسهم من التفتّح.
أَفَليْس هذا سببا كافيا لكي يغادروه والحال أنّ كلّ شيء يؤهّلهم للاندماج خارجَه؟» وقال بعد ذلك بأسْطر قليلة وبشيء من التعميم المُغالِط:«ما الذي أوصلنا الى هذا الحدّ؟ ومن المسؤول على هذه الكارثة؟
بالرّضوخ لحكم الواقع فانّ اندحار المسيحيّين في الشرق يترجم عجز المجتمع الاسلامي عن قبول ما لا يماثله».
وكان وَصْفُ فالوني لهذا المجتمع الاسلامي وصْفا قاتِما قتامةً مُرعبة اذ قال، مُعمِّمًا كلامَه على كافة البلدان الاسلاميّة : «وحين نرى وُعُورة الأراضي الحجريّة القاحلة وعدم الاقبال على الفلاحة ووسخ التجمّعات السكنيّة وشظف العيش لدى الجميع، وهي انعكاسات العقم الفكري لعالم لم ينجب، منذ قرون، عالما واحدا أو مفكّرا واحدا ذا شهرة عالميّة، كيف لا نتساءل عن الأسس الدينيّة التي تحدّد، منذ ألف عام، الأنظمة الاجتماعيّة والسياسيّة في الشرق العربيّ، وهي أنظمة ستكون، قريبا، قياسا للتقدّم الجاري في باقي العالم، من أكثر الأنظمة تخلّفا وتحجّرا على كوكب الأرض، ذلك أنّ آسيا وأمريكا اللاتينيّة وحتّى افريقيا قد بدأت تشهد تحوّلات عميقة. ففي المستقبل القريب سيبقى العالم الاسلامي وحده رافضا للحداثة وستبقى البلدان العربيّة مع ايران آخر معاقل الدكتاتوريّة».
ويختم فالوني مقدّمة كتابه المذكور بتساؤل غير بريء يبرّر به اختياره لعنوان الكتاب «حياة مسيحييّ الشرق وموتهم» بقوله:«هل سيكون هناك مسيحيون في الشرق خلال الألفيّة الثالثة؟ واذا كان انقراضهم الكلّي غيرَ أكيدٍ (سيبقى البعضُ عن اقتناع، رغم اليقين بحياة أفضل في الغرب) فيمكن أن نتصور أنهم سيصبحون مجموعة من الآحاد الغارقين في غُفْلِيّة المدن دون قدرة على التمسّك بحياة طائفيّة ضروريّة للمحافظة على هويّتهم».
ولا يعني هذا التساؤلُ وجوابُه أنّ فالوني متعاطف تعاطفا لا مشروطا مع هؤلاء المسيحيّين الشرقيين عموما ومع أقباط مصر على وجه الخصوص بل نراه يعمد – كلّما وجد الفرصة سانحةً الى بعض المبالغات من قبيل اتهامهم بالنزعة اللاساميّة خلال التعرض لموقفهم من اسرائيل. وقد اعتمد لايراد هذه التهمة بكلّ ثقة على كتاب آخر لا يقل تحاملا عن كتابه، هو «فُلْكُ محمّد» Le radeau de Mahomet لمؤلّفه جان بيار بيرونسيل هوقوز J. P. Peroncel-Hugoz.
واستشهد فالوني، في ذات السياق، بموقف البطريك كيرلّس السادس بابا الاسكندريّة وبطريك الكرازة المرقسيّة المناهض لتبرئة الفاتيكان لليهود من دم المسيح سنة 1964، كما استشهد بصلابة موقف البابا شنودة الثالث من اتفاقيات السلام بين مصر واسرائيل.
هذا غيْضٌ من فيْضٍ من مبالغات فالوني في كتابه المذكور الذي يندرج في سياق الكتب التي لا يستطيع أصحابها رغم ما يريدون اشعار القارئ به من التزامٍ بالموضوعيّة أن يتخلّصوا كلّيا من القوالب الفكرية الجاهزة والأحكام المسبقة التي تُطلق عادة على ما يجري في دول العالم الثالث، كأنْ يزعم فالوني أن الأقباط في خضوعهم الأليم وقلقهم الصامت على مصيرهم يجسّدون رغْمًا عنهم وضعيّة «الذمّة».
وثمّة ظاهرة لابدّ من الاشارة اليها تتمثّلُ في ما يتكرّر في الدراسات التي تعالج مثل هذه القضايا وفي التصريحات الشفاهيّة الناريّة لرجال سياسة واعلاميّين أو «خبراء»، مِنْ عدم التفرقة بين المسائل الأساسيّة والتفاصيل الثانويّة فيضيع الأساسيّ في الثانويّ ولا يبرز الا التحامل الذي لا يخفيه البعض ويتعمّد البعض الآخر مُداراتَهُ دون كبير توفيق. ولا تبرز الا الدعوة الى التفرقة والنصائح المسمومة المدسوسة في الدسم والتركيز على الاختلاف والْبَاسِه ثوْب الخلاف الذي لا صُلْحَ بَعْدهُ.
ولا يفوتنا التنبيه الى أنّ أطرافًا كثيرة توجّهُ أصابع الاتهام أوّل ما توجّهها الى اسرائيل ثمّ الى حلفائها،حين تُثارُ مسألة التآمر على مصر. وهذا أمر يضيق مجال الخوْض فيه بكلّ دقائقه وجزئياته لأنه يحتاج الى دراسة مخصوصة معمّقة وموثّقة توثيقا كافيا يدعّم أو يدحض ما يساق على سبيل الحدس والتخمين أو نتيجة تقاطعٍ بين معلومات لها صلة بالموضوع نظرا الى ندرة الصحيح القاطع منها.
فمن الدراسات ما يستند الى ما يُسمّى بمشروع «اسرائيل الكبرى» الممتدة من النيل الى الفرات، ليؤكّد أن من مصلحة اسرائيل تفتيت الدول العربية وتقسيم مصر الى دولتين: دولة مسلمة ودولة مسيحيّة عاصمتها أسيوط. ويضيف البعض امكان دولة ثالثة نوبيّة.
فهذا زكيّ شنودة ينفي، بكلّ بساطة، أن تكون للمسلمين مصلحة في مهاجمة الأقباط ولا للأقباط في مهاجمة المسلمين. ويرى أنّ صاحب المصلحة الحقيقيّة في كلّ الذي يحدث من مظاهر البغضاء والشحناء التي تهدّد الوطن بالخراب والفناء «انّما هي القوى الدوليّة التي تريد لمصر التفتّت والتشتّت والانهيار. ومن الواضح أنّ على رأس هذه القوى دولة اسرائيل التي تسعى الى تحطيم مصر كي تتسع على أنقاضها وتحقّق أحلامها في دولة اسرائيلية من النيل الى الفرات كما سبق كثيرا أن قال زعماؤها في تلميحاتهم بل تصريحاتهم، في مشروعاتهم السريّة وغير السريّة. فهم يتوهّمون في هذا السبيل أنهم قادرون على أن يفعلوا في مصر كما فعلوا في لبنان. وقد رسموا مؤامرتهم على أساس أن يقسّموا مصر الى دولتين احداهما للمسلمين والأخرى للأقباط».
ولا يشكّ زكي شنودة في كون بعض الدول الكبرى يساند اسرائيل في هذه «المؤامرة» بالدعم السياسي والمالي «لكي لا تقوم قائمة في منطقة الشرق الأوسط لدولة قويّة، فتنفرد بالتصرّف في أقداره ومقدراته. وهي مستعدّة في سبيل ذلك لأن تنثر الأموال نثرا وتغدقها اغداقا على بعض أصحاب النفوس الضعيفة لتنفّذ بواسطتهم أغراضها الدنيئة الخبيثة» وحذّر زكي شنودة من هذا الخطر ودعا الى الترصد لعملاء اسرائيل وحلفائها من الدول الكبرى التي تخدع الشباب البريء تحت شعارات زائفة وعبارات برّاقة.
ويرى أسامة الغزالي حرْب «أسامة الغزالي حرب» في تقديمه لكتاب مجدي خليل عن أقباط المهجر أنه من غير المستبعد «أن تستغلّ قوى أجنبيّة معيّنة لها رؤاها السياسية أو العقائدية الخاصة المعادية لمصر أو للعرب أو لها نظرتها المتعصّبة ازاء الاسلام أو المسلمين أو مصالحها المرتبطة بدوائر يهودية أو صهيونيّة متعصّبة.. ليس من المستبعد أن تستغلّ تلك القوى مشاعر الأقباط وتغذّيها على نحو يتماشى مع أهدافها حتّى لو توافرت النيّة الحسنة لدى الأقباط القلقين على الأوضاع في بلدهم الأم»
أصابع الاتهام موجّهة الى عدّة أطراف خارجيّة منها اسرائيل لاعتبارات سياسيّة، ومنها مجلس الكنائس العالمي الذي التقتْ مصالحُه مع مصالح اسرائيل لاعتبارات دينيّة.
ولكن ينبغي ألاّ يغيب عنّا أنّ «المسألة الدينيّة» عندما يطرحها الغرب ويؤجّج الفتنة الطائفيّة بمساعدة أذنابه في الشرق الأوسط لا يفعل ذلك بِحسْبانِها هدفًا دينيّا أو سياسيّا فحسب، وانّما يفعل ذلك بحسْبانها آليّةً للتجزئة وللالحاق السياسي والاقتصادي.
ففي شهر فيفري من عام 1982 نشر «أوديد ينون» الصحفي الاسرائيلي والموظّف السابق في وزارة الخارجيّة مقالا في صحيفة «اتجاهات» Kivounim التي تصدر عن دائرة النشر بالمنظّمة الصهيونيّة بالقدس بعنوان «استراتيجية اسرائيل في الثمانينات» ويمثّل هذا المقال المفصّل والدّقيق رؤية الكيان الصهيوني لتقسيم المنطقة بأكملها الى دويلات. وأهمّ ما يمكن رصْدُه حول ما تضمّنته هذه الوثيقة ما يلي:
أوّلا: تنصيبُ اسرائيل نفسَها حاميةً لمصالح الغرب في المنطقة.
ثانيا: سعي اسرائيل الى أن تكون قوّة عظمى ووحيدة تتحكّم في مصائر شعوب المنطقة.
ثالثا: اعادة رسم خريطة المنطقة من جديد بما يكفل هيمنتها المطلقة عليها.
وفي هذا تعتمد اسرائيل على تفتيت دوله المنطقة الى دويلات عنصريّة وطائفيّة وعرقيّة صغيرة تكون متنافرة ومتصارعة. وتكون اسرائيل هي الضابط لحركتها ولصراعها مثلما حدث في لبنان مع تكرار التجربة مع الأقلّيات الكرديّة والمسيحيّة في العراق والسنّة في سوريا والعراق وكلّ من الدروز والشيعة والعلويين وغيرهم.. بحيث يكون الكيان الصهيوني ذاته في حجم معقول بين تجمّعات هزيلة.
وعن مصر، نَصَّت الخطّة على أنّ تجزئة بلاد الفراعنة اقليميّا الى مناطق جغرافيّة متميّزة هو الهدف السياسيّ لاسرائيل في الثمانينات باستغلال الانقسامات بين المسلمين والأقباط. فتجزئة مصر على الأساس الطائفي والدينيّ هو المدخل لتجزئة المنطقة بأسرها. ويلتقي هذا المخطط مع سَعْيِ من يُسمّوْن «بالاسترجاعيّين» الذين يتخيّلون حدود اسرائيل أكثر اتساعا من حدود اسرائيل الكبرى التي يحلم بها أكثر الصهاينة تطرّفا. فحدودها حسب الرؤية الاسترجاعيّة تضمّ الأردن وأجزاء من مصر ولبنان ومعظم سوريا.
والاسترجاعيّون هم الذين ينتسبون خطأ الى «الصهيونيّة المسيحيّة» التي يتبرّأ منها العديد من المسيحيين البروتستان باعتبار الكنيستين الكاثوليكيّة والأرثوذكسية تعارضان الصهيونيّة على أساس عقائديّ. لذلك تتحدّث بعض الدراسات عن الصهيونيّة ذات الديباجة المسيحيّة وهي صهيونية غير مسيحيّة بل استمدّت ديباجتها عن طريق الحذف والانتقاء من التراث المسيحيّ.
وتستند الصهيونيّة المسيحيّة الى العقيدة الألفيّة الاسترجاعيّة التي تعود جذورها الى اليهوديّة. ولكّنها أصبحت فكرة مركزيّة في المسيحيّة البروتستانيّة، اذ يؤمن بعض المسيحيّين البروتستان بأنّه حينما يعود المسيح المخلِّصُ (الذي يشار اليه بالملِك الألفيّ) سيحكُم العالَم هو والقدّيسون لمدّة ألف عام يُشار اليها أحيانا باسم «أيّام المسيح» أو الألف السعيدة. وهي فترة سيسُود فيها السلام والعدل في عالَم التاريخ والطبيعة، وفي مجتمع الانسان والحيوان. وحتّى تبدأَ الألفُ السعيدة لا بدّ أن يتمّ استرجاع اليهود فلسطين تمهيدا لمجيء المسيح.
ويرى الاسترجاعيّون أنّ عودة اليهود الى فلسطين هي بُشْرى الألْف عام، وأنّ الفردوس الأرضي الألفيّ لن يتحقّق الا بهذه العودة، كما يرون أنّ اليهود هم شعب الله المختار القديم أو الأوّل، باعتبار المسيحيين شعبَ الله المختار الجديد أو الثاني. ولذا فانّ أرض فلسطين هي أرضهم التي وعَدهُم الاله بها. ووُعُودُ الربّ لا تَسْقُط حتّى وان خرج الشعبُ القديم عن الطريق ورفَض المسيح وصلبه.
وانّ كل من يقف في وجه هذه العودة يُعتبر من أعداء الاله، ويقف ضدّ الخلاص المسيحيّ. فأعداء اليهود هم أعداء الاله. ولئن انتهت حياة المسيح الأولى بانكار اليهود له وصلبه، فحياتُه الثانية ستنتهي باعلان انتصاره وبالتدخّل في آخر لحظة لانقاذ البقيّة الباقية من اليهود واعادتهم الى أرضهم. فيعترف اليهود بألوهيّة المسيح ويقابلونه باعتباره (الماشيح) المنتظر ويتحوّلون الى دعاةِ تبشيرٍ بالمسيحيّة، وينشُرون الانجيل في العالم. وسينجح المسيح في اقناع اليهود بما فشل في اقناعهم به أوّلَ مرّة. وحينما يحدُث ذلك تكون قد اكتملت الدائرة وتمّت هدايةُ العالَم بأسره.
ويرى صاحب كتاب «الانجيليون العرب والصهيونيّة» أنّ يهود أمريكا لا يرحّبون كثيرا بهذه الصهيونيّة التي تدّعي المسيحيّة والتي تطالب بنقْلِهم الى اسرائيل ووضْعِهم في حالة حرْب دائمة. وان كانت اسرائيل تجد أنّ هؤلاء الصهاينة الذين يستخدمون الديباجة اليهوديّة يكوّنُون مجموعة ضغط قويّ تعيش في صلب المجتمع الأمريكي. ويلتقي كلّ هذا مع «الذهنيّة التفتيتيّة» الاسرائيلية لدول منطقة الشرق الأوسط.
وتحْظَى مِصْر، دوْمًا، باهتمام كبيرٍ في الاستراتيجية الصهيونيّة منذ قيام الكيان الصهيوني. وليس من المبالغة في شيء ما ذهب اليه طارق البشري حين قال :«انّ المشروع الصهيوني في نظر السياسة البريطانيّة في بدايات القرن العشرين كان مُوجّها، في الأساس، ضدّ مصر لضمان استقرار السيطرة الاستعماريّة عليها. وذلك سواء وقع المشروع على بعد آلاف الأميال من مصر جنوبا، في أوغندا أو على مشارف قناة السويس عند الحدود الشمالية الشرقيّة لمصر».
ولمْ يخْفَ على أحد الدورُ المؤثّر الذي لعبه ولا يزال يلعبُه الكيان الصهيونيّ في تهديد دول المنطقة ومحاولة اثارة القلاقل فيها ومواصلة الدور الذي كانت تضطلع به قوى الاحتلال الغربيّة قبل استقلال هذه الدول.
وتمثّل الأقليات المدخل الطبيعي الذي تسعى من خلاله الى تحقيق التفتيت والتجزئة عبْر اثارة خصائصها الذاتيّة، اثنيّة كانت أو دينيّة.
وقد صرّح أحد المشاركين في ندوة «الأقلّيات في الوطن العربي» التي انعقدت بتلّ أبيب قائلا:«انّ الأمن الاستراتيجي الاسرائيلي لا تضمنه الاّ العلاقات الاستراتيجية مع أقلّيات المنطقة».
ودون الاستهانة بدوْر العامل الخارجيّ في ظلّ المتغيّرات العالميّة المتسارعة وتأثيره في «الجماعة الوطنيّة» في مصر، يظلّ اعتقادنا راسخا في أنّ معالجة الثغرات على الصعيد المحلّي بعودة الجميع الى الأرضية المصريّة واعلاء قيمة المواطنة تمثّل سدّا منيعا أمام التدخل الأجنبيّ.
ويلتقي كلامنا هذا مع موقف الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة الرسمي الذي يظهر من قوْلٍ للبابا شنودة الثالث مُفاده:
«.. ونحن لا نحبّ اطلاقا أن ننال حقوقا عن طريق الضغط، من الممكن أن تضيع عن طريق ضغط آخر، الى جانب أنّ أيّ تأثير على اقتصاد مصر يضرّ بالأقباط أنفسهم ونحن لا نقبل أيّ أذى للدولة. وولاؤنا الأول لمصر، فاذا حدثت لنا أيّة أزمات، وبالفعل توجد، نلجأ للهيئات المختصّة بالدولة».
ذكّرْنا بذلك لأنَّه قد ترسّخ لدينا الاقتناع، بعد دراسة أوضاع الأقباط وعلاقتهم بالمسلمين على امتداد أكثر من ثمانين سنة (1908-1990)، أن المسألة القبطية تبعا لما ذكرْنا، ليستْ شأْنًا مصريًّا فقط، ولكنها، بتراكماتها التاريخية، ورَقةٌ في مُعادلاتِ المنطقة وحساباتِ المعنيين بمستقبلها (وَهُمْ كثّر)، وليسوا جميعا ممّن يحبّ الخير للأقباط خاصة وللمصريّين عامّة ولسائر العرب باطلاق.
هي ورقة يَتداخلُ فيها السياسي والاقتصادي بالدينيّ،باعتبار تجزئة مصر على الأساس الطائفي، على غرار ما وقع في لبنان، هو مدخل ثانٍ لتجزئة المنطقة بأسرها باعتبار الأمن الاستراتيجي الاسرائيلي لا تضمنه الا العلاقات الاستراتيجية مع أقليات المنطقة، مثلما بيّنَّا آنِفًا.
هذا مَا لمْ يغبْ عن عُقلاء الأقباط وعُقلاء المسلمين في مصر الذين لم يختاروا الحلَّ العاطفيَّ السهْلَ الذي قد يُريح الضمائر الى حدٍّ مّا، ولكنه لا يحل المشاكل، ونعني الرفض القطعي لاعتبار الأقباط أقليةً من قِبَل أطرافٍ مُتعدّدين ليس لهم بالضرورة نفسُ المنطلقات ونفس الأهداف والغايات، ولكنهم يلتقون في الاعتقاد في خطورة هذا الاعتبار. والحال أنه أمر يُقرّه الواقع. فلا أحد بامكانه أنّ ينكر أنّ الاختلاف بين المسلمين والأقباط في مصر هو اختلاف ديني وأنّ الأقباط متشبِّثُون به، أي مُتمسِّكون بدينهم المخالِف لدين الدولة الرسمي دون أن يفكّروا، بالضرورة، في الانفصال عن هذه الدولة.
وهذا الجانب أساسي في تعريف اللجنة الفرعية لالغاء التمييز وحماية الأقليات التابعة للأمم المتحدة الذّي ينصّ على أنّ الأقليات هي جماعات تابعة داخل شعب مّا، تتمتّع بتقاليد وخصائص اثنية أو دينية أو لغوية مُعيَّنة تختلف بشكل واضح عن تلك الموجودة لدى بقية السكّان وترغَبُ في دوام المحافظة عليها.
هذه الرغبة لدى الأقباط في دوام الحفاظ على دينهم لا تتضمَّن دعوة واضحة ولا خفيّة (على الأقل في الوقت الحاضر وعلى المدى المتوسط) الى الانفصال، ولذلك قدّرنا أنّ اطار المواطنة الكاملة هو الذي يضمن لهم حقوقهم ويحدّد واجباتهم ويقضي على ما سمّاه ميلاد حنّا مُحِقّا بالغِلالة الرقيقة العازلة التي يمكن أن تتحوّل، في أوقات الأزمات، الى صراع ظاهر رغم أنّها «في أوقات الاسترخاء تبدو كأنّها غشاءٌ ناعم هفهاف من الحرير، قد لا تراها ولكنّها موجودة على أيّ حال».
اطار المواطنة الكاملة هو الذي سيصْرِفُ من فكّر، مِنَ الأقباط، في التعويل على التدخل الأجنبي، سيصرفُهم عن هذا الاعتقاد، ويُخرِج المتقوْقعين منهم أو مَنْ اختاروا السلبيَّةَ مَوْقِفًا، مِنْ سلبيتهم تجاه الشأن السياسي، تلك السلبيّة التي تُعيق الاندماج الوطني وتُوسّع الفجوات بين المسلمين والأقباط في مصر. وسيتبيَّنُ الجميع،عندئذٍ، أنّ معركتهم الرئيسية ليست في ما بينهم، ولا بينهم وبين المسلمين، وانّما هي بينهم وبين التخلُّف الذّي يضمّ العرب قاطبة والذّي منه تنبعث عِلَلُهُمْ، على حدّ عبارة قسطنطين زريق.
فالعالم يعيش راهنا فترة مخاض. والبقاءُ فيه ليس بالضرورة للأصلح، وانما للقادر على تغيير ما بنفسه والتهيُّؤ لمواجهة القوى الماضية في تبديل المفاهيم الفكرية ونُظُم الحياة وأشكالها.
ولذلك لا طائل من صَرْف المصريّين الوقْت في نقاش مسألة الأقلية والأغلبية. فلا الاقرارُ بأنهم أقلية يحلّ مشاكلهم، ولا رفْضُ هذا الاعتبار يُساهم في تجاوزها، بل لعلّ من الأجْدى، في رأينا، أن تقتنع الأكثرية المُسْلِمة بأن مسؤوليتها تتضخّم بضخامة حجْمها، وأنّ ميزتها تقوم على النوع وليس على الكمّ، وأنّ مطلبي التقدّم والتحرّر هما الضامنان للانسجام الاجتماعي والوطني عموما، وأنْ تقتنعَ الأقلية أنّ سلامتها لا تضمن بحمايةٍ من الخارج بل بتمتين جذورها في مجتمعها واغناء عطائِها له والمطالبة بِحقِّ المشاركة السياسية باعتبارها مُقوِّما أساسيا من مقومات المواطنة بمختلف أبعادها القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في راهنهم ومستقبلهم، في ظلّ دولة ينبغي أن يقتنع القائمون عليها بتأكد الحاجة الى فكّ الارتباط بين السلطة الدنيويّة والدِّين استلهماما أو مُؤازرةً أو تبريرا كلّما احتاجوا الى ذلك.
ذاك هو الكنْسُ من الداخل الذي يُخوّل للعرب جميعًا، مسلمين ومسيحيّين، أن يقولوا، للغرْب، بصوت واحد: ارفعوا أيديكم عن المسيحيّين العرب، انّهم منّا واليْنا، وانّهم جزء لا يتجزّاُ من المنطقة العربيّة التي اغتنتْ بتأثير الحضارات التي وُلِدتْ فيها أو مرّتْ بها،وانّ مشروع الابادة وهْم في رؤوس البعض منكم، وحلْم لبعض الأطراف بيْنَكم،لا غيْر، من أجل تقْريب صياغة خارطة جديدة للشرق الأوسط أعْددْتُمُوها في مراكز البحوث عندكم وعلى طاولات ساستكم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.