لم يكن يدور بخلد أحد أن يسكت الشعب التونسي وعلى رأسه طلائع الشباب التونسي على حركة محمد البوعزيزي. تلك الحركة التي حسبها البعض مجرد انتحار يمكن أن يلقى خبرها العابر في سلة المهملات، أو التي أفتى فيها مفتي الجمهورية و غيره من الأيمة بعدم الصلاة عليه في الجنازة لأنه قاتل نفسه. لكن الشعب التونسي كان يدرك بحس عال أن حركة محمد البوعزيزي هي حركة شهادة على ما تراكم في ذاكرة الشعب التونسي من ظلم، وقد حمل محمد البوعزيزي بفعله ذاك شهيدا في المهج التي لم تعد قادرة على كظم غيضها، فتدفقت لكسر حاجز الخوف التي أناخ بأثقاله على البلاد والعباد. والشهادة تكون شهادة على الأوضاع المتردية التي لا يستأهلها الشعب التونسي، كما تكون الشهادة استشهادا يوقض عند التونسيين غريزتهما في الإنعتاق والانتقام من الظلام والظلم. أجل لا أحد يصدق ما يحدث في تونس من قدرة على استعادة وهجها وعراقتها في النضال الطويل ضد الغزاة وضد الطامعين وضد الاستعمار وضد الطغاة وضد القتلة والسارقين قوت وأحلام الناس. لقد كان الشهيد محمد البوعزيزي الذي تحوّل من مظلوم إلى شهيد ومن شهيد إلى رمز لثورة الياسمين، يستعيد بشكل ما وبطريقة وراثية موغلة في القدم حين أقدم على إحراق نفسه مقولة «النار ولا العار»، لكن الشعب التونسي الأبيّ وعلى رأسه طلائع الشباب حوّل هذه المقولة بما لديه في تاريخ من تراث نضالي وما لديه من زاد وطني إلى لحضة مفصلية تاريخية تتحول فيها البلاد كلها من دوائر الخوف والرّعب إلى ساحات الاحتجاج والمطالبة بالكرامة بل من دائرة الصمت القاهر الضيقة إلى مطلب القصاص والانتقام. لم تكن هذه المطالبة شخصية ولم تكن من جهة سياسية أو عقائدية أو أيديولوجية حزبية، كما لم تكن تعبيرا عن نزوة، أو فسحة للانفلات و الفوضى، بل هي مطالبة شعبية عفوية بمحاسبة المتسببين في قهر الشعب واحتقاره, ومحاسبة من يعتقد أن التونسيين مراهقون يجب تخديرهم والكذب عليهم بمعسول الكلام وأحزمة الوعود. لم يفهم النظام الشعارات التي رفعها التونسيون منذ حادثة محمد البوعزيزي, لم يفهم مطالب الأجيال الجديدة التي كانت في عمر أبي القاسم الشابي وهو في ظروف أحلك وقهر أعتى يردد: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر لكن الشباب التونسي حفظ هذا البيت الذي كاد يتحول إلى سورة من السور و صلى به من أجل حريته و عزّته.