كيف يمكن أن نفهم أحداث الرابع عشر من جانفي التي عصفت بالنظام التونسي وأعادت ترتيب الأوراق في الشارع العربي. ما حدث في تونس مفاجأة قلبت الموازين، وغيرت المفاهيم، ودمرت ثوابت سياسية رافقت مرحلة ما بعد الاستعمار في المنطقة العربية برمتها. لقد فاجأت الانتفاضة الشعبية في تونس القريب قبل البعيد. ذلك أن النظام الأمني التونسي يعد من أكثر الأنظمة الأمنية تسلطا وهيمنة. وكان التشدد الأمني يبرر من قبل قادته، بل وقادة المنافحين عنه ضمن المنظومة الغربية الديمقراطية، بالتأكيد على البعدين التنموي والتقدمي للنظام. بل إن الرئيس الفرنسي ساركوزي كثيرا ما ذكّر المنددين بالدعم الفرنسي لنظام الاستبداد التونسي بنسبة التنمية العالية التي بقيت لعقود في حدود الخمسة بالمئة، وبقدارات النظام على توفير حياة كريمة وعيش رغيد لشعبه. بدأت الانفاضة التي عصفت بالنظام التونسي العتيد بصرخة غضب أعلنها محمد البوعزيزي، الشاب التونسي الذي أحرق نفسه بعد أن صادر شرطي عربة الخضار المتنقل ثم صفعه على وجهه عندما احتج على مصادرة مصدر رزقه الوحيد. لحظة الغضب العفوية التي اشعلت النار في جسد البوعزيزي اشعلت النار كذلك في الجسد التونسي الذي انتفض بعد عقود من الخضوع لقرارت الحاكم بأمره. لم تكن انتفاضة الشارع التونسي ضمن الحسابات السياسية للمعارضة التونسية التي تحول معظم قادتها إلى الخارج تحت وطأة الضغوط الأمنية المتزايدة من جهة النظام الحاكم. ولم تظهر فكرة التغيير الحكومي في تونس في دائرة المحللين السياسيين في الصحف العربية والعالمية، ناهيك عن التحرك الفعلي لتغيير النظام برمته. ولم تنبثق الانتفاضة من تحرك سياسي دعت إليه المعارضة السياسية في الداخل والخارج، بل مثلت تحركا شعبيا وعملا عفويا استجاب خلاله الشارع التونسي لآلام شاب في مقتبل العمر منعه النظام السياسي من كسب عيشه ببيع الخضار بعد أن عجز عن توفير فرص العمل المناسبة له، بل تمادى فأهان الكرامة باللطم والتحقير بعد أن قطع الطريق بين الشاب والكسب الشريف. محمد البوعزيزي، الذي قضى نحبه في المستشفى متأثرا بجروحه في منتصف العقد الثاني من عمره، خريج جامعي لم يجد الفرصة لاكتساب عيشه بالعمل في مجال دراسته وتخصصه، فقرر العمل بائع خضار متجول بدلا من الانضمام إلى قوافل العاطلين عن العمل، والتي تقدر نسبتهم بين الشباب في تونس ب 34%. لم تكن مصادرة العربة، مصدر الرزق الوحيد، الفتيل الذي أشعل نار التي أحرقت الشاب أولا لتمتد بعد أيام إلى النظام فتأجج اللهيب حوله ومن ثم ترغم رأس الاستبداد في دولة ما بعد الاستعمار إلى الفرار بنفسه وأهله، بل بدأ الحريق عندما رفضت سلطات بلدية مدينة سيدي بوزيد قبول شكوى قدمها في حق شرطي صفعه أمام الملأ. صرخة البوزيدي التي لا زال صداها يتردد في مدن تونس وبلداتها صرخة انتصار للكرامة، واحتاج على الظلم، وتنديد بفساد الدولة وعجزها عن تأمن حياة كريمة لأبنائها. تداعيات انهيار النظام التونسي لا زالت في بداياتها، واصوات انهياره المدوية وصلت إلى العواصم العربية، لتعلن بصوت بليغ نهاية مرحلة وبداية أخرى، ولتقول لكل من كان له عقل أو ألقى السمع وهو شهيد أن الجيل الجديد من الشباب العرب يحتاج إلى فسحة أكبر من حرية التحرك وحرية التعبير. لا شك أن لتونس خصوصيات مجتمعية تحول دون تعميم نتائج انتفاضتها على الدول العربية، أو سحب آليات التغيير فيها على المنطقة العربية برمتها. ومع ذلك فإن الدرس البليغ الذي يجب أن يعيه الجميع أن الدولة القطرية العربية لم تعد قادرة على تلبية احتياجات الشارع العربي، أو الاستجابة إلى تطلعات الاجيال الفتية التي نشأت في عصر الاتصالات السريعة، والتي تبحث عن فرص عمل طيب وعيش كريم. فمن الواضح أن وهم الأمن الذي ولدته مؤسسات الترويع «الأمني» خدر بن علي وحاشيته وحال بينهم وقراءة الواقع المتبدل في مجتمع طامح إلى مستقبل واعد، ليستفيق من خدره على هزات الزلزال المفاجئ، كما بدى واضحا في خطابه الأخير وهو يردد بتشنج ولكن بعد فوات الأوان «فهمتكم فهمتكم.» التحدي الذي يواجه الأنظمة العربية من المحيط إلى الخليج اليوم يتحدد في هم توفير فرص العمل الكريم لجموع الشباب القادم بأعداد كبيرة إلى ساحات العمل. ولن تتمكن هذه الانظمة من توفير فرص العيش الكريم بالتركيز على التنمية الاقتصادية كما فعل النظام التونسي، بل لا بد من توفير مساحة من الحرية لتمكين المواطن العربي من المشاركة بعملية البناء، وتقديم المبادرات الازمة لاحداث حراك اجتماعي واقتصادي ناجع، وتحمل المسؤولية الوطنية، ومحاربة الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة ويمنع التوزيع العادل للثروة كما تأكل القرضة من جزع الشجرة، فتتركها فارغة ميتة عرضة للسقوط والانهيار لأبسط الهزات. انبعاث جديد لروح التضامن الوطني لتحرير الانسان وصيانة كرامة المواطن يفجرها الشعب التونسي. ولأول مرة في التاريخ العربي الحديث منذ استقلال الدول العربية عن المستعمر الأوروبي يشهد العالم انتفاضة شعبية سلمية تنجح في الصمود في وجه نظام أمني وتتمكن من إرغام قائده الملهم على الاعتراف بانفكاك سياسته عن احتياجات شعبه، ومن ثم التخلي مرغما عن كرسي الرئاسة. الانتفاضة التونسية لم تكتمل، ولا زال أمامها خطوات صعبة للوصول إلى بر الأمان. ولكن بغض النظر عن النتائج التي يمكن لأنتفاضة الشعب التونسي تحقيقها فإن الزلزال الذي فجره الشعب التونسي لن يقتصر على تدمير عرش واحد من أعتى المتسلطين والحاكمين بأمرهم، بل ستؤدي تداعياته إلى زعزعة العديد من الثوابت التي تقوم عليها المنظومة العربية اليوم. على القيادات السياسية والنخب العربية أن تعي درس سقوط النظام التونسي الذي حكم فيه بن علي باسم التقدم التنمية. فثورة الياسمين التي قادها المواطن التونسي تظهر الترابط بين الفعل والاقتصادي والفعل السياسي، وبين البناء السلطوي والمحتوى الاجتماعي، وهي تردد بصوت مجلجل حقيقة قديمة متجددة: أن لا تنمية اقتصادية حقيقية ما لم ترافقها تنمية سياسية وثقافية، وان لا انفتاح اقتصاديا حقيقي ما لم يتبعه انفتاح سياسي وإعلامي مماثل، ولا أمن للدولة عند غياب الأمن الشعبي، ولا كرامة للحاكم ما لم تصن كرامة المحكوم، ولا حرية للوطن ما لم تحفظ حرية المواطن. د. لؤي صافي :استاذ جامعي وناشط في الدفاع عن حقوق الجالية العربية والإسلامية في أميركا