شكرا لأنك أوقفت لنا ناقة الشك التي كانت تأخذنا الى برّ غير برّنا وكشفت عنا غطاء الغموض الذي نعيشه بشأن من كنّا نظنهم من فرط ما أحبّوك على حقيقة لا غبار عليها قبل أن يأتينا اليقين بأنهم مجرّد بيّاعة ورق مرتزقة وانهم ليسوا كبارا كما ظنناهم بل أقزام عند «ربهم يسترزقون».. شكرا لأنك كشفت لنا مساحة الحزن التي كانت تسكن قلوب هذا الشعب... ومساحة الغيظ التي كانت تملأ كل شبر من هذه التربة الطيبة... ومساحة الاغتراب التي يعيشها شعب متجذّر في أرض الجدود... وشكرا لك لأنك من فرط محاولتك تشتيتنا جمّعتنا كأفضل ما يكون وكأروع ما يكون.. شكرا لأنك كشفت لنا عن حجم حبّنا لهذا البلد بعد ان كدنا نسلّم بأننا لسنا من هذا البلد... وشكرا لأنك كنت السبب في أن نوقّع بالدم وثيقة بقاء البلد وحياة البلد.. وشكرا لأنك دفعتنا خارج حسابات هذا البلد فوجدنا أنفسنا في قلب حسابات هذا البلد. شكرا لأنك استعجلت ولادة تونس لجيل من ذهب كنا نظنه ميّت القلب... او هو ضائع او في أسوإ الأحوال مغترب... لكنه بصم بالعشرة بأنه يحب البلد كما لا يحب البلاد أحد وأنت الذي ظننت ان هذا الجيل قاصرا الى الأبد.. شكرا لأنك اعدت الى هذه البلاد هيبتها وروعتها ففجّرت فيها دون ان تقصد عيون ماء عذب تسقي الياسمين الباكي والفل الشاكي بعد ان استحالت دموع الثكالى الى ماء دافق يخرج من بين صلب الوجع وترائب القهر فيحوّل اليأس الى فأس تنهال على جذوع كنت تسقيها بمياه آسنة فلا هي دامت ولا أنت دمت.. شكرا لأنك دون ان تدري أيقظت ضمائرنا ونفخت فينا روحا جديدة خلناها خالدة الى نوم أبدي.. وذكّرتنا في لحظة هاربة من الزمن (ليس كما هربت أنت) بضرورة تمتعنا بحواسنا الخمس... فإذا نحن نرى الواقع ونلمس الحقيقة ونشم الآتي ونتذوّق روعة الحدث ونستمع الى هدير الغضب.. شكرا لأنك هربت... وجنّبت هذا الشعب الكريم تلطيخ يديه بالقبض عليك ويكفي ان تكفّل بك التاريخ ليتركك فارّا داخل متاهة ضيّقة لا تدري متى تمتد اليك يد الغير لتسلخ جلدك عن لحمك بعد ان تأكدت بما لا يدع مجالا للشك بأنك لم تكن سوى «فأر تجارب»... هارب..