إنّ الزّلزال العنيف الّذي هزّ بلادنا وفجّر ثورتها العارمة وزعزع أركان نظامها القمعيّ الفاسد فاجأ النّخبة السّياسيّة بجميع أطيافها وفاق كلّ التّوقّعات ودوّخ العقول وخلخل كلّ القناعات وأذهل العالم بما يزخر به هذا الوطن من إرادات حيّة تنشد الكرامة والحرّيّة وطاقات مبدعة خلاّقة. إنّ الجماهير الّتي هبّت مدوّية كالبركان واشتعل لهيبها بسرعة فائقة هي الّتي تصنع مجد هذا الشّعب العظيم وتغيّر مجرى التّاريخ دون وصاية حزبيّة نفعيّة أو قيادة مناورة مخادعة أو زعيم ملهم فذّ. إنّ الثّورة الّتي فجّرها هذا الجيل الّذي أتخمته المدرسة والكلّيّة بمنظومة من القيم حرمه الاستبداد والجشع والقهر من تكريسها في الواقع المعيش، هذه الثّورة ترجّ اليوم كلّ الثّوابت الفكريّة وتقلب كلّ المفاهيم وتدوس على كلّ الشّعارات المقيتة المضلّلة. إنّها لحظة أَلَق وتنوير في ليل الإنسانيّة الطّويل لحظة تحوّل جذريّ وإرهاص تاريخيّ خلاّق عجزت عن رصدها أدمغتنا المتكلّسة وأجهزتنا الصّدئة القديمة. لا أحد تنبّأ بهذا الزّلزال ولا أحد عرف توقيته أو حدّد محيطه أو قدّر قوّته الارتجاجيّة. إنّنا جميعا امام حالة استثنائيّة بدّلت كلّ المقاييس والمعايير ولا أحد حاول أن يدرك طبيعة ما يحدث حقّا وبصورة عفويّة تلقائيّة بدْءًا ب«الحاكم» الّذي كان يسكن ذات يوم في قصر قرطاج والّذي قال إنّه فهم الرّسالة واستوعب الدّرس واتّضح أنّه لم يفْقه شيئا وليس ذلك بالأمر الغريب وصولا إلى النّخبة العالمة الجاهلة بكلّ تلويناتها وأطيافها وحيواناتها السّياسيّة. فلا الحكومة الّتي نصب موائدها الرّئيس المخلوع قبيل الفرار واستدار حولها اللّاهثون خلف سراب السّلطة والمتهافتون على فتات حكم متآكل منهار فهمت اللّحظة الرّاهنة وقدّرت خطورتها ولا أجهزة الإعلام الّتي تبدّلت يافطاتها وواجهاتها وتغيّرت بقدرة قادر سمات منشّطيها ومنشّطاتها أمكن لها الإمساك بهذه اللّحظة الفالتة من عقال التّاريخ وتشريح أسبابها وكنْه أبعادها وآفاقها والارتقاء إلى مستوى الوعي الّذي ولّدته في النّفوس والرّؤوس فاختلط الحابل بالنّابل وظنّ الكثير ممّن ألقت بهم الصّدفة في أقبية المؤسّسات الإعلاميّة أنّ ما يجري على الأرض مجرّد لعبة أو مباراة أو موضة عابرة وباتوا يطلّون علينا صباح مساء محوّطين بأساطين الخبراء والمتنفّذين في الجمعيّات والجامعات. وصار المشهد الممجوج يتكرّر في كلّ المسرحيّات الّتي تبثّها على الهواء المنابر التّلفزيّة.. الجميع يتطهّر من أدرانه والجميع يلقي خطبته العصماء.. وتحوّل المشهد الدراميّ إلى فصل من فصول «الستربطيز» السّياسيّ فانكشفت العورات المقرفة بعدما نزع الممثّلون أرديتهم المستعارة وبزّاتهم الجديدة وسالت الأصباغ والأدباغ الّتي لطّخوا بها شعورهم ونحورهم ووجوههم المجعّدة... لا احد فهم الدّرس أقولها مرّة أخرى وأمضي.. إنّ ما يحدث الآن في ساحة الرّداءة السّياسيّة كارثة بكلّ المعايير الفنّيّة رغم أنّ حكومة التّوافق والتّهافت انتدبت خبيرة في الإخراج السّينمائيّ لتوضيب المشهد: سيل جارف من الكلام المرصّع حول الدّيمقراطيّة والحرّيّة والكرامة وحقوق الإنسان وألسنة سليطة شحيذة تنهش بعضها بعضا وتتناحر بلا هوادة وفيض من الأخبار والتّفاهات يسكب في آذاننا المشنّفة كاللّواقط الفولاذيّة المنصوبة فوق السّطوح.. بكلّ هذا سننطلق في بناء تونس الّتي غيّرت المشهد العالميّ وتضاريس الجغرافيا السّياسيّة والثّقافيّة والحضاريّة. سلطة بائسة نَهمة واهنة، نقاشات لا تمتّ غالبا بأيّة صلة لما أفرزته الثّورة من أولويّات واهتمامات ورهانات، مؤامرات تدبّر في الخفاء والعلن لإخماد لهيب الانتفاضة وتقاسم الرّصيد الهائل من دماء الشّهداء ودموع الثّكالى وعذابات الكادحين والأشقياء، متاريس توضع هنا وهناك لعرقلة المسيرة المظفّرة وتأبيد النّمط المجتمعيّ القائم على النّهب والاستغلال والٍسّطو والجريمة المنظّمة، شيوخ قبائل وطوائف وطرائق تتحرّك أشداقها وأجوافها لاقتسام الغنائم، آلات صدئة متعفّنة لتشريح لحظة ميلاد رائعة تبشّر بانبلاج فجر جديد في هذه الرّقعة من الأرض وفي غيرها من بلادنا العربيّة ... وإذا ما حوّلنا وجهتنا أدركنا أنّنا لم نكن وحدنا الأغبياء والمغفّلين والعجزة فالعالم بأسره لم يفهم قيمة اللّحظة وعظمتها وليس ذلك غريبا فالزّلزال كان عنيفا وعصيّا على الأذهان الّتي لم تتهيّأ لهذه الصّدمة المؤسّسة. لاحظوا الارتباك الّذي حصل في فرنسا(العكري سابقا) أرض الثّورة الّتي ظلّت طيلة عقود معينا لاينضب للشّعوب التّائقة للتّحرّر والانعتاق والحركات الفكريّة الخلاّقة في تاريخنا المعاصر. ما أنجزه هذا الشّعب الّذي نعته أحدهم بأنّه ذرارة بشريّة لم تتمكّن مجسّاتهم الاستخباريّة ومراكز دراساتهم الاستراتيجيّة والمستقبليّة وحواسّ شمّهم الالكترونيّة من تحديد قوّة نبضه وقيس درجة ضغطه المتعالية أمّا العقيد الّذي يجثم في السّلطة بجوارنا فلم يعد قادرا حتّى على تحديد اليوم الّذي استوى فيه على العرش حاكما بأمر الثّورة.. في هذه العتمة يشعّ بريق قادم هذه المرّة من بلاد السّاموراي والأمر من مأتاه لا يستغرب فالحكومة اليابانيّة مثلما تناقلته بعض وسائل الإعلام يبدو أنّها فهمت شيئا ولم تغب عنها أشياء.. وللحديث بقيّة..