وقد قرّرنا ...وقد قرّرنا. ونأذن اليوم ...ونأذن اليوم. كم سمعناها في دفق الجمل الجوفاء، والتعابير المفرغة من المعنى؟ كم صكّت آذاننا، وعذّبت ضمائرنا، وسطت على عقولنا ؟ جالسين نكون كالتلاميذ وأنت تقذف من حنجرة مضخّمة مقعّرة عباراتك الخارجة من قبو فارغ، أو من طبل أجوف، أو من بئر مهجورة، لا شيء فيها يوحي بالأمل، أو يبعث في القلب الرّجاء. فراغ وأوهام، ولا شيء غير ذلك. وقد قرّرنا ...وقد قرّرنا ... من أين لرجل لم يقرأ في حياته شعرا، ولا أمسك بكتاب، ولا اشتهى مشاهدة فيلم أو مسرحية، ولا رفع عينيه إلى هندسة المسرح البلدي أن تستطيب نفسه رقيق الغناء؟ أن يطرب لغير موسيقى «الرّبوخ» و«المزود»؟ ألم يضف يوما إلى وزارة «الثقافة» «مهمّة» الترفيه؟ ولو لم يستح قليلا لمسح الأولى وترك الثانية. أليس هو المحرّض على أن يقسم مواطنوه يومهم بين الكرة نهارا والرّقص ليلا... حتى إذا جاء الصيف قسموا يومهم بين الشواطىء والسيّاح، وبين مهرجانات كل مكان؟ الشعار العامّ : «لا تفكّر، ها نحن نفكّر مكانك». كل الوزارات كانت تفكّر مكاننا، بما فيها وزارة الثقافة. لا كتب إلا تحت مجهرها،، الموسيقى والمهرجانات والمسرح والسينما والرسم تحت رحمتها، تمنح أو تحجب عطاياها على قدر الانسجام، مع تقليم أظافر من ينزلق خارج الدّائرة... تجمع المال كامل السنة لتنفقه على ثقافة قطيع من يقولون دوما نعم، وعلى استشارات لا تنتهي، ومهرجانات للتهريج العمومي. مقابل إهمال كامل للأصوات غير المسبّحة بحمد «التحوّل المبارك» وشكر نعمائه التي عمّت البرّ والبحر حتى دخلت غرف النّوم. لا مناص لأيّ ندوة أو حفل أو مؤتمر من إنهاء أشغاله ببرقيّة تمجيد لواهب النّعم، خالق رقم 7 من العدم. كانت وزارة الثقافة تفعل كامل السنة بالثقافة ما تريد، وكان للمثقفين يوم في السنة يفعلون فيه ما يراد بهم. تتمّ دعوتهم في «يوم الثقافة» إلى قصر قرطاج لتكريمهم، فيأتونه من كل النّواحي، تاركين سياراتهم بعيدا عن جدرانه، ليقودهم الحرس والحجّاب إلى الدّاخل، بعد التأكّد الجيّد من هويّاتهم ودعواتهم المرقّمة، ومقارنة وجوههم بصورة البطاقة. لبّيت دعوة يوم الثقافة مرّات، وفي واحدة منها وصلت متأخّرا وقد أغلقت الأبواب الرئيسية، وطلب مني ومن ثلاثة آخرين الدّخول من باب خلفي، لكننا وجدناه موصدا بدوره، فرجعنا نمشي متمهّلين بين صفين من سيارات المدعوّين. كان السكون قد عمّ المكان بعد حركة الوافدين، ولا وجود لغيرنا في الطريق. وفجأة خرج من بين السيارات رجلان أحدهما بزيّ الحرس، ممسك بكلب يتشمّم العربات، والثاني بثوب أبيض يمسك آلة البحث عن الألغام، يدخلها تحت هذه السيارة ثم الأخرى، متثبّتا ومنقّبا عن ممنوعات قد يكون نقلها شاعر أو ملحّن أومغنّ أو كاتب أو سينمائي أو مسرحيّ أو رسّام، وهو ذاهب إلى حفل التكريم. هل راودتك نفسك بتفتيش ثياب ضيوفك خلسة؟ هذا ما يفعله ربّ القصر عندما يدعو المثقفين، جاهلا أن أسلحتهم في الرؤوس والضمائر، ولا تراها العيون الغبيّة. هاهم في القاعة الكبرى، يجهلون ما يحدث لسياراتهم، ويجلسون بهدوء مثل تلاميذ الابتدائي، خلف صفوف الوزراء ووجهاء الموالاة، لا مقام لهم إلا هناك حتى في اليوم المخصّص لتكريمهم. وما التكريم في النهاية إلا توزيع حصص تموين، إما نقدية لمن يشكو الفقر، وإما تشريفية لمن لديه أنيميا شرف. تبدأ المسرحية بعد أن يجد كل الوجهاء والوزراء كراسيهم المرقّمة، ويجلس المتزلفون بقرب أرباب المناصب، وبعد أن ينهي فنّانو الدّرجة الرابعة تنافسهم على الكراسي الأقرب إلى كاميراوات التلفزة. عندها يطلق الميكروفون تنبيها باعتلاء الرّئيس المنصّة فيقف الجميع مصفّقين، إلى أن يأذن لهم بالجلوس، كما في المدرسة. بعد ذلك يبدأ موكب الهدايا رتّب أمرها سفراؤنا الأبرار خدمة لسمعة رئيسهم... هذا درع تذكاري من جمعية بقرية كذا جنوب إيطاليا، وهذه شهادة فخرية من جامعة نفطية في صحراء العرب، ومع كل هدية خطاب تمجيد لصفات نبل وشرف وعظمة اكتشفوها في رئيسنا وعميت عيوننا عنها. هذا هو الجزء الأول من الحفل، أما الجزء الثاني فيشمل توزيع الأوسمة والهبات على أكثر الناس تصفيقا وهتافا وهرولة، يليه الجزء الختامي المخصّص للخطاب الرّئاسي المنتظر، فتشرئبّ عندئذ الأعناق، وتنتبه العقول، أملا في انفراج ما، في انفتاح ما، في تغيير حال أو استشراف مآل... لكن الأسامي هي هي... والمعاني هي هي...وخيبات الأمل هي هي. ولا يخرج الآملون والحالمون بعد كل يوم وطني للثقافة إلا بصدى العبارات الشهيرة الخاوية: وقد قرّرنا...وقد قرّرنا. ونأذن اليوم...ونأذن اليوم.