ما تزال التداعيات والأحداث تتتالى في بلادنا على خلفية البحث عن أفضل السبل والمسالك الموصلة للبلاد إلى برّ الأمان واستعادة نسق الحياة المعتاد في ظلّ دولة القانون والحقوق والعدالة ودولة الأمن والاستقرار استثمارا ناجعا وفاعلا لثورة 14 جانفي. وما من شكّ في أنّ تصفية إرث الماضي ، والّذي يتجاوز في الحقيقة إرث 23 سنة من حكم الرئيس السابق بن علي إلى بداية تأسيس الدولة الوطنيّة سنة 1956 وحتى قبل ذلك التاريخ بحكم ما عرفتهُ البلاد على مدار ذلك التاريخ من مظالم ومحاكمات وحيف وظلم وفساد ومحسوبيّة، إنّ تصفية ذلك الإرث يحتاجُ إلى أجندة واضحة يجب أن تتميّز بقدر كبير من العقلانيّة وتغليب المصلحة العامّة ، أجندة تتوحّد حولها كلّ الأطياف السياسية والحقوقيّة والنقابيّة وتضعُ في حسبانها على وجه الخصوص كشف حقيقة ما جرى وما كان يجري في دواليب الدولة التونسيّة والوقوف عند السياسات التي كانت تسيّر البلاد والميكانيزمات التي أوصلت البلاد لتعرف مثل تلك الأوضاع من الرداءة والتداخل والفساد المالي والسياسي والقضائي والحيف الاجتماعي. إنّ كشف الحقائق وفتح مختلف الملفات التي تشغلُ بال الرأي العام بشكل علني وصريح هو الباب الأوّل لانتهاج مسلك صائب في اتجاه تحديد بوصلة التحرّك للإصلاح خلال الفترة المقبلة ، ذلك أنّ الحقيقة وحدها هي القادرة على تحديد المسؤوليات وضبط طبيعة الأخطاء والتجاوزات التي كانت تدور في مختلف القطاعات والمجالات والتي حرمت البلاد من وقت ثمين لتحقيق رقيّها ونهضتها المأمولة القادرة على تأمين كرامة الناس وإحساسهم بمواطنتهم وحماية حقوقهم كاملة دون نقصان. ومن المهمّ إبراز أنّ كشف الحقائق يجب أن يكون في إطار من الشفافيّة والنزاهة ، وبالتأكيد أنّ ذلك لا يُمكنهُ أن يتمّ إلاّ عبر العدالة والقضاء المستقل المؤهّل وحدهُ للتدقيق في الملفات ولنا من رجال القضاء من هم قادرون على فعل ذلك في إطار يخدم البناء الإصلاحي الجديد دون تهديم أو تهديد لمكسب الثورة الشعبيّة الّتي وضعت هدفا استراتيجيّا لها في القطع مع سلوكات الماضي والتأسيس لمواطنة جديدة فعليّة ومُعاشة. إنّ ترك العنان على مصراعيه لمن هبّ ودبّ للقيام بعمليات المُحاسبة والمساءلة سيُوقع أضرارا بالنهج الذي تروم البلاد دخوله وسيوفّر فرصا إضافيّة لقوى الشدّ إلى الخلف لتفعل فعلها وتستعيد البعض من مواقعها على خلفية أوضاع الفوضى أو الاتهامات الجزافيّة والتشكيك المبالغ فيه. إنّها مسؤوليّة كبيرة موكلة لكلّ التونسيين والتونسيات لتخطّي الوضعيّة الحالية الصعبة والانطلاق لبناء المستقبل المأمول في إطار من التعاون والتضامن والشراكة وبعيدا عن كلّ مخاطر الإقصاء أو الاستئصال أو التهميش. إنّ الأنظار تتّجه اليوم أساسا الى توفّر شروط القضاء المستقل والعادل والمنفصل عن أيّة سلطات أخرى وذلك بهدف كشف الأحداث والملفات الغامضة والمبهمة وتحديد المسؤوليات وفتح الطريق لكي يستعيد الناس حقوقهم ويُرفع الظلم عنهم وإجراء الطرق القضائيّة المطلوبة لطي صفحة الماضي دون رجعة ونؤكّد أنّ بلادنا فعلا بلد متحضر وقادر على تحقيق النقلة نحو العدالة والحرية والديمقراطية على النحو السليم.