تتواصل المساعي للدفع ببلادنا نحو الاستقرار واستعادة الأمن والقطع مع سلبيات الماضي وفتح صفحة جديدة من تاريخ تونس الحديث ، صفحة نيّرة لا فساد ولا محسوبية ولا ظلم فيها ، صفحة ناصعة من الوحدة الوطنيّة والوفاق والديمقراطيّة واحترام الحريات وحقوق الإنسان. خطوات هامّة قُطعت ولكن ما يزال الرأي العام والشارع التونسي لا يفهمُ العديد من المجريات والأحداث ويتساءل عن حقيقة ما يجري في العديد من المواقع ، ومن المؤكّد أنّ سُرعة تلك الأحداث والمجريات ولئن تدفع إلى المزيد من التداخل والضبابيّة فإنّ الواجب اليوم من الحكومة المؤقتة وبقية الأطراف السياسية والنقابية والنخب مُطالبة بمُساعدة المواطنين على تقصّي طريق الحقيقة حيث الراحة والاطمئنان. لقد اتّجهت الأنظار أمس إلى مصر حيث تتدافع البلاد نحو أفق حرب أهليّة غير مُعلنة في ظلّ تمسّك الرئيس مُبارك بالسلطة ، والواضح أنّ مصر ليست كتونس في تجسيد التحوّل والانتقال الديمقراطي ، لقد كرّست الثورة التونسيّة وطريقة التعاطي مع استتباعاتها نموذجا فريدا في التغيير في ظلّ سُرعة لا مُتناهية في تجاوز سلبيات الماضي وبناء الأفق الجديد المأمول والّذي نادت به حناجر المتظاهرين والشهداء ، وحتّى بعض قوى الشدّ إلى الخلف والباحثين عن الارتداد اتّضح محدوديّة حجمهم في بلادنا حيث انكشفت نواياهم وضعف تأثيرهم حينما وقف الشعب موحّدا وحارسا أمينا لثورته وهو يسير رويدا رويدا لتحقيق حلم أجيال عديدة في مجتمع عادل وآمن. بقي أنّ مسألة هامّة جدّا تتطلّب الحرص والمُثابرة والقرار الرسمي والشعبي الحاسمين ، إنّها تفعيل دور القضاء والعدالة في تصريف مهمّة تصفية إرث الماضي وبناء الصورة الجديدة لبلادنا ، إذ ومع الأسف فقد انخرط البعضُ، ومن بينهم حتّى وزراء ومسؤولين ونخب وأحزاب ، في ما يدفعُ إلى مزيد تأجيج الأوضاع وتوتيرها عبر مبادرات وإجراءات لقيت الكثير من الاستغراب والاستفهام ، ليس في صوابها وضرورتها بل في توقيتها وفي طريقة تصريفها للشارع وللرأي العام ، ومن الواضح أنّ الأوضاع الإصلاحية لم تبلغ بعد الدرجة المرجوّة من المنهجيّة والرويّة المطلوبتين في مثل هذه الحالة الانتقالية من وضع فيه حزمة هائلة من الإخلالات والتجاوزات إلى وضع آخر مُغاير. إنّ النظرة الضيّقة والمُتسرّعة والمتّخذة بشكل لا يُراعي حُرمة المؤسّسة القضائيّة وهيبتها ودورها في استعادة العدل والحقوق، لا يُمكنها أن تسير بالبلاد على قاطرة التغيير المنشود وتنطوي على قدر كبير من المخاطر والمنزلقات. ومع هذه الوضعيّة فإنّ الدعوة تتجدّد لا فقط للحكومة والإدارة العموميّة بل كذلك لمختلف الفاعلين في الحياة السياسية والحزبيّة والحقوقيّة والنقابيّة من أجل تغليب منطق العقل والحكمة والتريّث ورفض الانسياق وراء ردود الأفعال والانزلاق إلى الاعتبارات الشخصيّة والذاتيّة الضيّقة وتغليب المصلحة الوطنيّة وتأمين أقوم المسالك للثورة حتّى ترسُو إلى برّ الأمان. فوسط كلّ هذا الصخب الجاري، السياسي والأمني والاجتماعي، فإنّ وميض العدالة ما يزال مخبُوءا وبعيدا عن سلطة القرار الفعليّة لتمييز الغثّ من السمين وكشف حقائق الملفات القديمة والجديدة ومن ثمّ تحديد طبيعة التجاوزات وإعادة الحق لأصحابه وتحقيق الأجواء المُلائمة لمُصالحة وطنيّة عادلة غير مُنفلتة عن المسؤوليّة والحق والإنصاف. إنّ تواصل تجاهل دور القضاء العادل والمستقل في مثل هذه الخطوات الإصلاحيّة سيُفاقمُ ، دونما شكّ، سلبيات وإخلالات جديدة قد تهدّد نجاح الثورة في بلوغ هدفها السامي في مجتمع عادل وآمن، وكما قال ابن خلدون فإنّ العدل هو أساس العمران وأنّ غيابهُ مؤذن بخرابه (أي خراب ذلك العمران).