كشف الخلاف حول موعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي العديد من كواليس ومخفيات الشأن السياسي. فتقريبا لأوّل مرّة منذ 14 جانفي تاريخ قيام الثورة ورحيل النظام السابق يصطفّ الفاعلون السياسيّون في شقين متقابلين: الأوّل يتمسّك بموعد 24 جويلية على اعتباره التزاما سياسيّا كان محلّ توافق وطني شامل منذ اعتصام القصبة الثاني، في حين يدعو الطرف الثاني إلحاحا وإصرارا إلى أنّ تلك الانتخابات لا يُمكنها أن تكون إلاّ في 16 أكتوبر بعد استكمال جميع مراحل الإعداد التقني واللوجيستي للعمليّة الانتخابيّة. ولا يخفى على متابعي الشأن السياسي أنّ كلا الموقفين ينطويان على نوايا وأجندات حزبيّة تصبّان ظاهريّا في باب المصلحة الوطنيّة وحماية المسار الديمقراطي في البلاد وتجسيد تطلعات الشعب في القطع مع الماضي وبناء نظام سياسي جديد يؤهّل البلاد إلى المستقبل المأمول بعيدا عن الانفراد ومقولات الحزب الواحد والظلم وانعدام العدالة والتوازن بين الفئات والجهات. وبمنطق الأجندات السياسيّة المعلنة وما فيها من تشدّد من كلا الطرفين، ودون الخوض في معقوليّة هذا الخطاب أو ذاك فإنّ حالة التجاذب والتصدّع هي الآن على أشدّها على اعتبار أنّ السير نحو أحد الموعدين المعلنين سيكون بمثابة الكسب السياسي لهذا الطرف أو ذاك ، ومن هنا تتّضح خطورة الأجندات الحزبيّة على مسار الأجندة الوطنية ووضع الاستقرار العام في البلاد وهو أولوية الأولويات في راهن حياة الناس جميعا والّذين سئموا أجواء الاضطراب والتوتّر وحالات الانفلات على اختلاف مستوياتها وأنواعها. إنّ الأطراف السياسيّة مُطالبة اليوم بالتخلّي عن منطق الأجندة الحزبيّة الضيّقة والتشبث بالأجندة الوطنيّة الموحدّة والتي من أبرز عناوينها وشعاراتها احترام التعهّدات والمسار السياسي التوافقي والتغاضي عن منطق استبلاه الرأي العام أو السعي إلى تحييد الشارع التونسي عن مآلات الانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي وطرقها وأساليبها وافتكاك قوّة المبادرة وسلطة القرار من قبل هذا الطيف السياسي أو ذاك. إنّها مرحلة انتقاليّة تستدعي الانتصار الثابت إلى الأجندة الوطنيّة والتخلّي عن الحسابات الضيّقة والاعتبارات الفئويّة المهزوزة، ومن المؤكّد في ظلّ أجواء الحريات وانفتاح مصادر الخبر وتنامي هوامش التحليل وتقصّي حقائق الأحداث إنّ تلك الحسابات وتلك الاعتبارات لم يعد لها اليوم أن تتخفّى عن أنظار الناس ومتابعي الشأن السياسي والحزبي، وشيئا فشيئا ستتكشّف كلّ تلك الحسابات والاعتبارات ليجد الرأي العام نفسه وجها لوجه مع أصحابها ويكتشف حقيقة نواياهم ومغزى ارتباطاتهم وجوهر أجنداتهم الضيّقة والفئويّة الهشّة. وصوت العقل والمصلحة الوطنيّة هما الخياران الوحيدان للاندراج الجماعي في أجندة واحدة تخدم البلاد ولا تضيّع عليه المزيد من الوقت والمزيد من الفرص.