«يا مصري وانتَ اللي هاممني من دون الكلّ هزيل ويحسبك الجاهل عيّان بالسّلّ من دي الكُيوف اللي تصبّرْ على كُثْر الذّلّ... شوف الشعوب واتغصّ وذوب وارجع إنسان... » هكذا قالت مصر لنفسها منذ الثلث الأوّل من القرن العشرين، حافرةً لنيلها العظيم بسواعد أبنائها وبناتها مجرًى في غير اتّجاه المستعمرين والطّغاة، الذين لم يريدوا لها أن تخرج من قبضة الاحتلال إلاّ لتقع في قبضة القهر والأحلام المجهضة. وها هي تستيقظ اليوم معلنة عن ثورة جيل هذا القرن الجديد الذي اختزن أحلام آبائه وأجداده ليبرهن على أنّه لم يتخلّ يومًا عن إنسانيّته. ولعلّ التاريخ الذي يمتلك أيضًا شيئًا من روح الدّعابة، هو الذي رأى أن تتمّ هذه الثورة على بعد أيّام من الثورة التونسيّة، بعد أن رأى أن تكتب مصر لنفسها تلك الكلمات بتوقيع شاعر اسمه بيرم التونسيّ. تحرّك الشعب المصريّ إذنْ، في ما يبدو أنّه تسونامي ثوريّ مرشّح إلى المزيد من الامتداد. وكما هتف المصريّون للثورة التونسيّة وهي تخطو خطواتها الأولى، ها هم التونسيّون في خضمّ انشغالهم بالدفاع عن ثورتهم ضدّ كل من يريد الالتفاف عليها، يهتفون باسم مصر سعداء بأن تنسف رياح التحرّر والكرامة في لحظات كلّ ما زرعته الأنظمة الاستبداديّة من أسافين بين الشعوب على امتداد عقود. هكذا إذنْ تشرع الثورة في رسم عدد من ملامح عصر آخر. ولعلّ أحد هذه الملامح أنّ الوحدة لا يمكن أن تكون بعيدًا عن حريّة الشعوب في تقرير مصيرها وفي تحديد هويّتها. إلاّ أنّ من هذه الملامح أيضًا أنّ الشعوب تستفيد من تجارب التاريخ أكثر ممّا تفعل أنظمتها. وهو ما تبرهن عليه مجريات الأحداث التي صاحبت أيّام الغضب المصريّ حتى الآن، وكيف سارعت الجماهير المصريّة إلى الاستفادة من التجربة التونسيّة والتنويع عليها والإبداع انطلاقًا منها، للتواصل بواسطة الوسائل الحديثة، وللتنظّم على الرغم من تعطيل هذه الوسائل، ولحماية نفسها بنفسها، وللالتفاف على محاولات إلجامها وتشويهها والتعتيم عليها. بينما لم يفلح النظام المصريّ في المُقابل إلاّ في تحويل هذه الاستفادة إلى نوع من الكاريكاتور الببّغائيّ. فإذا نحن نكاد نشهد تكرارًا مضحكًا لمسلسل خُطَب الفهم والتفهّم إيّاها. وإعادةً لسيناريو التحويرات الوزاريّة الالتفافيّة والوعود المعسولة. وكأنّنا أمام ديناصورات سياسيّة لم تأخذ من التكنولوجيا الحديثة إلاّ ما يسعفها بوسائل وحيل جديدة لحبس مواطنيها في قديمها المتأبّد. وكأنّ تعطيل الهواتف المحمولة يكفي لتعطيل الصوت الهاتف بشوقه إلى الحياة! وكأنّ تحوير الصُّوَرِ بالفوتوشوب يكفي كي تتحوّل الصورة إلى واقع! ناسين أنّ الجغرافيا لا تتغيّر بالفوتوشوب، وأنّ التاريخ لا يتحكّم فيه مقصّ الرقيب التلفزيونيّ، وأنّ الأسلاك الشائكة والدبّابات لا تحول بين القاهر والمقهور حين يتحوّل الإحساس بالقهر إلى وقود للحريّة. لا يسعُ أحرارَ العالم إلاّ أن يقفوا مع الشعب المصريّ في ثورته، متمنّين امتداد ربيع الحريّة والكرامة إلى سائر البلاد العربيّة. والأمل كبير في أن يصل هذا الشعب العظيم بثورته إلى برّ الأمان، على الرغم من كثرة المحاذير. فالاستبداد أخطبوط بألف رأس، وأصابعه كثيرة في الداخل والخارج. والوضع في مصر تحديدًا مدجّج بالكثير من الكوابح الجيوسياسيّة، بالنظر إلى أهميّة مصر الإستراتيجيّة، وموقعها في طريق النفط العالميّ، ودور نظامها في كلّ ما يتعلّق بتوازنات الشرق الأوسط. وليس من شكّ في أنّ خططًا كثيرة تُحاكُ الآن لاختطاف الثورة وتحويل وجهتها إلى انتفاضة يتمّ على إثرها شدُّ جلْدة النظام المترهّل، بما يخدم مصالح الولايات المتّحدة وربيبتها إسرائيل ومن ورائهما عدد من الدول الغربيّة. ولعلّ البعض يعدّ الآن لخلْط الأوراق بِيَدٍ بينما اليَدُ الأخرى تستمرّ في الخديعة. محاولاً تغيير بعض الرؤوس برؤوس جديدة، وإدخال بعض الإصلاحات امتصاصًا للغضب، كي لا يتمّ الاقتراب من التغيير الثوريّ الحقيقيّ، الذي قد يعني في جملة ما يعني: أنّ حريّة مصر قد يكون بدايةً لحريّة فلسطين. إلاّ أنّ التاريخ أثبت (ماضيًا وحاضرًا) أنّ الشعوب سيّدة قرارها على الرغم من كلّ الحسابات الجيوسياسيّة. كما أثبت التاريخ (ماضيًا وحاضرًا) أنّ إرادة الشعوب الحرّة تستطيع قلْب كلّ المعادلات. ولمصر ما ليس لغيرها من خبرات فكريّة وإبداعيّة ونضاليّة، استطاعت أن تجد لنفسها هامشًا للتحرّك على امتداد عقود الحديد والنّار. وكلّنا أمل في أن تعرف هذه الطاقات كيف تتوحّد لتقود سفينة الثورة إلى مينائها المنشود. وكلّنا أمل في أن يكون الشعب المصريّ قد اختزن ما يكفي من التجارب كي يفوّت الفرصة على أعدائه، وكي يرفض السّرِقَتَيْن: سرقة الثروة، وسرقة الثورة. عندئذ يطمئنّ الشهداء إلى أنّ دمهم لم يُرَقْ هدرًا. عندئذ يطمئنّ بيرم التونسيّ إلى أن كلماته لم تذهب أدراج الرياح. عندئذ يطمئنّ الشيخ إمام إلى أنّ أمّه بهيّة لم تشح عن كلماته. هو الذي دفعه التاريخ (ربّما في إحدى دعاباته، من يدري؟) إلى أن يغنّي من كلمات شاعر تونسيّ (أيضًا) نصًّا يبدو اليوم وكأنّه كُتِب لهذه الثورة. حدَثَ ذلك قبل أكثر من عشرين سنة، حين تغنّى بأحد نصوصي، قائلاً بذلك الصوت الفريد الذي أكاد أسمعه يتردّد هذه الأيّام في شوارع مصر وحاراتها وقراها: «عاد المعاد يا قهرزاد، وفتّح يناير على البلاد عيدك سعيد وكلّ عام، إنتِ بحار وانا سندباد...».