القلب يخفق للأصدقاء الأشقّاء وللصديقات الشقيقات في ليبيا وفي البحرين واليمن والجزائر والمغرب وفي سائر بلادنا العربيّة المتوهّجة بشوقها إلى الحريّة والكرامة. وإذا كان الأمر متعلّقًا بملايين من الرجال والنساء من مختلف الأجيال والطبقات والمشارب، فإنّي أخصّ بالذكر من أعرفُ منهم لأشير عن طريقهم إلى من لا أعرف. ومن الطبيعيّ أن ينتمي أغلب من أعرف إلى عالم الشعر والأدب والكتابة، بحكم المحنة والمهنة. فهؤلاء هم مفاتيحي إلى المكان. بعضهم عرفتُه عن كثب وزرتُه في بيته ولاعبتُ أطفاله وبعضهم رأيتُه هنا أو هناك في مشارق الأرض ومغاربها حسب مصادفات الحياة. لكنّهم جميعًا الآن يسكنون القلب ويشغلون البال. أتابع أخبارهم بلهفة، ولا أفهم كيف يبرّر البعض لنفسه الإشاحة عن دمهم ودم أهلهم وأهلنا وهو يُهرَق. وإذا كانت عيون بعض الغربيّين تنظر إليهم شزرًا أو من خلف حسابات نفطيّة جيوسياسيّة، فإنّ من غير المعقول أن لا يرتفع الصوت العربيّ واضحًا صارخًا بمناصرتهم ومساندتهم. أغلب هؤلاء الشعراء والكتاب العرب الذين أعرفهم عن كثب هم من أبناء جيلي أو من جيل أسبق بقليل، ابيضَّ شَعرُهم اليوم ومرّت عليه رياح الخمسين كي لا أقول الخُماسين، لكنّ ثورة شبابهم أعادتهم إلى الشباب كما حدث لزملائهم في تونس ومصر، فإذا هم أفضل برهان على صحّة القول: العشرون هي الشباب الذي يمنحه لنا الزمن، أمّا الخمسون فهي الشباب الذي ننتزعه من الزمن. والحقّ أنّ ما يحدث في البلاد العربيّة هذه الأيّام ليس بعيدًا عن سؤال الشيخوخة السياسيّة حين تصطدم بشباب لا تفهمه ولا تفهم تطلّعاته ولا تعرف بأيّ لغة تخاطبه، فإذا هي تحاصره بأساليبها البالية وتتعامل معه بأدوات فقدت صلاحيّتها وتخاطبه بنفس المفردات الإسمنتيّة المسلّحة التي أصبحت جزءًا من القيود التي يريد التخلّص منها. أتحدّث هنا عن شيوخ الروح والعقل والقلب طبعًا، وعن الشيخوخة بمعنى الترهّل والخَرَف وفقدان الصلة بالحياة، وليس بمعنى الحكمة والحصافة والخبرة. فالشباب والشيخوخة بهذا المعنى ليسا مسألتي عمر. لكنّ هذا التصحيح لا ينفي صحّة القول بأنّنا في أغلب بلادنا العربيّة، أمام أنظمة شاخت قلبًا وقالبًا، عمرًا وروحًا، فإذا هي تحكم على النقيض تمامًا ممّا يعتمل في صدور أبناء شعبها، في غفلة تامّة أو في تغافل كامل عن خطورة الشرخ المتفاقم بينها وبين شباب وطنها، في غفلة تامّة أو في تغافل كامل عن تهافت خطابها البائد، حتى كاد الناس لا يستعملون كلمة «بوليتيك» إلاّ للإشارة إلى كلّ خطاب مبهم أو كاذب. ولعلّ الاصطدام بهذه الشيخوخة هو الذي أتاح من جملة أسباب أخرى عديدة ومهمّة، إمكانيّة توحّد الشعوب ونهوضها في لحظة واحدة على الرغم من كلّ العوامل المُضادّة. لحظة شبيهة بتلك التي أشار إليها بودلير حين كتب بتاريخ 20 أكتوبر 1848 ما معناه: علينا أن ننتبه جيّدًا إلى أنّه في لحظة معيّنة، لعلّها فريدة في تاريخ البشريّة، نشأت حركة ضمّت إليها في حزمة واحدة كلّ ما كان متناثرًا من الأفكار، وأنّ الزمن شهد مرحلة أو يومًا أو ساعة، أمكن فيها لمشاعر عدد الكبير من الأفراد أن تتجسّد في محض رجاء هائل... ولعلّ للباحث المختصّ أكثر من وجهة نظر في تحليل أسباب تسونامي الحريّة والتحرّر الذي امتدّ من تونس إلى عدد من البلاد العربيّة. لكنّي أعتقد أنّ هذه الشيخوخة السياسيّة التي طبعت النظام العربيّ جزء من هذه الأسباب. فالملامح المشتركة والمختلفة كثيرة بين هذه الرقعة العربيّة وتلك، لكنّ شيخوخة الأنظمة واحدة لا تتغيّر، سواء تبخترت بتاج الملك أو توشّحت برداء الإمارة أو ارتدت زيّا عسكريّا أو مدنيًّا. وقد استحضرتُ أفلاطون أكثر من مرّة في أكثر من مقال، لا بوصفه الحالم بالمدينة الفاضلة بل بوصفه حكّاءً من الطراز الأوّل وصانع أخبار في وسعنا تأوّلها كما نريد. ومن بينها خبرُ طاليس العجوز رائد الفلسفة الذي كان يقع في الحفرة تلو الحفرة بسبب ولعه بالنجوم ممّا أثار ضحك فتيات توراقيا اللواتي كنّ يراقبنه من خلف النوافذ. وأغلب الظنّ أنّ صاحبنا لو عاين ما يحدث هذه الأيّام في العديد من بلادنا العربيّة المتأجّجة شوقًا إلى الحريّة، لأضاف عددا من الملوك والأمراء والقادة العرب إلى ضحايا سخرية فتيات توراقيا وغيرهنّ، على الرغم من أنّ أغلبهم على العكس من طاليس لا ينظر إلى غير كرسيّه المتداعي، متشبّثًا به تشبّث الغريق بقشّة. في هذا السياق نفهم كلّ ما تحاوله هذه الأنظمة المترهّلة هذه الأيّام من كبح لجماح شعوبها عن طريق الورثة من الأبناء أو ولاة العهد، الذين يريدون عبثًا التمديد في تاريخ صلوحيّة آبائهم الطغاة، بواسطة حركات استعراضيّة تُلقَى مثل العظمة أمام مختلف أجهزة الإعلام، فإذا الكلمات نفسها تجري على ألسنة الجميع بحيث يفرغ معناها ويبطل فعلها: إصلاحات، تغييرات، انتخابات، حوارات، أمن، سلام. بينما لا ترجمة لشيء من ذلك على أرض الواقع. ولكن بعد ماذا؟ بعد أن يكون تسونامي الحريّة قد دكّ بموجاته الارتداديّة كلّ الجحور والزنزانات.