من طرائف التاريخ التونسي أن لقب «بن علي» تكرر ثلاث مرات في أحقاب مختلفة الأولى حين تأسست الدولة الحسينية على يد الحسين بن علي، والثانية لما قاد الرئيس الأسبق الحبيب بن علي بورقيبة مسيرة الكفاح من أجل استقلال تونس من الاستعمار الفرنسي والثالثة عندما اعتلى زين العابدين بن علي سدة الحكم اثر انقلاب أبيض. ومن طرائف التاريخ أيضا وجود قاسم مشترك بين حاملي لقب « بن علي» أو بين الأنظمة التي يرمزون اليها، ويتمثل القاسم المشترك في «فكرة الامتنان» على الشعب بحيث يكون الحاكم صاحب الفضل في ما يتكرم به علىالناس فالدولة الحسينية تكرمت على البلاد أساسا بالامتنان عليها بأول دستور تونسي وهو دستور «عهد الأمان» وتتمثل مكرمة الرئيس بورقيبة في قيادته للحركة الوطنية المكللة بالاستقلال ووضع دستور جديد وارساء النظام الجمهوري على أنقاض الملكية ولما جاء السابع من نوفمبر 1987 اعتبر الجميع أن « صانع التغيير» تفضل علينا بانقاذ البلاد من المخاطر الجمة التي كانت تهدد تونس في أواخر عهد بورقيبة، وأضاف الى ذلك مكرمة أخرى حين ألقى بيانا خلابا في عباراته سخيا في وعوده التي سرعان ما تبين أنها سراب خادع. وتقوم فكرة الامتنان على أن اليد العليا هي للحاكم صاحب الفضل على الناس، وأن اليد السفلى للشعب الذي يقتصر دوره على تلقي ما يتكرم به عليه حاكمه والتهليل له والرضا بما يقرره له وبما أنه صاحب الفضل على الجميع فلا بأس أن يعتبر نفسه أيضا صاحب البلاد، وأن يختزل الدولة في شخصه الكريم، وأن يمسك برقاب العباد حتى الاستبداد وأن يتربع على العرش عقودا طويلة من الزمن، وإذا حال الدستور دون البقاء في الحكم مدى الحياة فلا خجل من تعديله بما يزيل كل عائق في هذا السبيل، وبما أن صاحب البلاد ليس بمقدوره أن يحيا أكثر من حياة واحدة للأسف، نراه يسعى بكل الوسائل الى توريث الحكم لتكون له بذلك حياة ثانية ولو بالوكالة. ولعل أعظم ما جاءت به الثورة التونسية التي ننعم بها الآن هي أن الشعب هو الذي أنقذ البلاد هذه المرة، وخلصها من نظام الظلم والنهب المنظم للممتلكات العامة والخاصة، وامتن على البلاد بالحرية والكرامة ودفع الثمن اللازم لذلك من دماء أبنائه ودموع اليتامى والأرامل والثكالي وليس في هذه الثورة فضل لأي حزب أو زعيم أو منظمة، بل الفضل كله لعامة المواطنين الذين حطموا جدار الخوف، ولمن واجهوا القمع والرصاص ببسالة أدهشت العالم، ولشبابها الذين قاموا بدور حاسم في اسقاط النظام باستعمال سلاح أمضى من الرصاص، ألا وهو سلاح التواصل عبر شبكة الانترنات وبذلك يحق للشعب أن يكون مستقبلا هو صاحب اليد العليا، وصاحب السيادة الفعلية، وصاحب القول الفصل في صنع مصيره وفي نحت ملامح الغد المستجيب لمطامحه، وكل ادعاء بعد اليوم بأن هذا الزعيم أو ذاك هو صاحب فضل على العباد سيكون من قبيل المنّ والأذى. لقد نجح بيان7 نوفمبر في حقن البلاد كلها بجرعة هائلة من التخدير، ثم استطاع احكام قبضته على مؤسسات الدولة، وأطلق العنان لأجهزة القمع قصد القضاء على كل تيار معارض وخنق الرأي المخالف، واستقرت ثقافة الخوف بيننا ، ولم يعد هناك مجال إلا لأصوات التملق والتمجيد، وكان من الطبيعي في هذا المناخ أن تجد «العائلة المالكة» وفروعها الأخطبوطية مجالا فسيحا للنهب والسلب حتى أعطى «صانع التغيير» انطباعا قويا بأنه عاجز تماما أمام تلك الحاشية وأطماعها المتناهية وكأنه واقع تحت السحر. وقد كانت السنوات الأخيرة حافلة بالمؤشرات والوقائع الكفيلة بالتنبيه الى ما تسير اليه الأمور، ومن المؤشرات التي ضاعت معها فرصة الصحوة المبكرة ما حدث أثناء الحملة الانتخابية لفائدة بن علي عام 2004 حين ظهرت علينا زوجته تسير أمامه وكأنها تقوده ثم تصعد الى المنصة لإلقاء خطابها بينما زوجها ورئيس الدولة جالس مع جمهور المستمعين، وليس في ذلك المشهد من دلالة سوى ضياع هيبة الدولة وانقلاب القيم والتبشير بسطوة ليلى الطرابلسي وعائلتها على البلاد والعباد وفعلا صارت العائلة المالكة صاحبة الأمر والنهي في مؤسسات الدولة، واستطاعت تنظيم عمليات النهب على أوسع نطاق بصورة منهجية بمساعدة عدد من المسؤولين المتواطئين معها الى حد استباق الرغبات طمعا في رضا هذا الفرع أو ذاك من فروع الحاشية. بحمد الله الذي يمهل ولا يهمل انزاح الكابوس، وعلينا أن نترحم كل يوم على أرواح شهداء الحرية والكرامة الذين وقف العالم بأسره إجلالا لهم واعترافا ببسالة شباب تونس الذي نجح في الإطاحة بالطاغيةفي السنة الدولية للشباب، ولأول مرة في تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية وقف أعضاء الكونغرس وقفة تصفيق للشعب التونسي (Ovation standing) لأنه بأساليب سلمية صنع ثورة فريدة من نوعها لا تنطبق عليها مواصفات الثورة التقليدية التي من شروطها الأساسية ارتكازها على قدر أيديولوجي ووجود زعامة تقودها بهدف تحطيم النظام القديم وبناء نظام جديد على أنقاضه. بدأت الثورة في الظاهر بحادثة انتحار المرحوم محمد البوعزيزي، ثم بانتفاضة عفوية أرادت الثأر للكرامة المهدورة بالصفعة والاحتجاج على أوضاع البطالة والخصاصة التي تشكو منها جهات داخلية شبه منسية، وأما استعمال النظام أسلوب القمع الرهيب والتقتيل المجاني على نحو غير مسبوق ودون أدنى حساب للعواقب تحولت الانتفاضة العفوية الى ثورة عارمة، ودخل الشباب على الخط بأدوات التواصل العصري، وسقط قناع التعتيم الإعلامي، وارتفع سقف المطالب الشعبية الى حد المطالبة برأس النظام وما من شك في أن مخزون الكبت والظلم الذي تراكم طيلة سنوات عديدة قد ساعد الى حد بعيد على الانتقال من مجرد الحركة الاحتجاجية الى الثورة التي لا ترضي بأقل من تغيير النظام بطغيانه وفساده،بعد أن اطمأن الى أن طيبة الشعب التونسي ضمانة بقائه في حالة استكانة وخنوع. قامت الثورة البيضاء ونجحت في ازاحة رأس النظام، واعترف القاصي والداني بأن حقوق التأليف في هذه الثورة محفوظة للشعب التونسي خاصة وأنها حققت في ساعات معدودة وبأسلوب حضاري مكاسب استوجبت عقودا من الزمن في بلدان أخرى، مثل إطلاق حرية الرأي، والافراج عن المساجين السياسيين وفصل الدولة عن الحزب الحاكم، وافساح المجال للتعددية الحزبية الحقيقية والسماح بعودة اللاجئين الى حظيرة الوطن ، وإقرار مبدإ العفو التشريعي العام والتعهد بضمان استقلالية القضاء، وتكليف لجان محايدة بتقصي الحقائق في شأن التجاوزات وعمليات النهب والفساد وبصياغة الإصلاحات السياسية اللازمة لاستكمال الثورة وإرساء نظام جديد يرقى الى طموحات الثورة الآن وقد تحقق ما تحقق في انتظار الباقي لابد من التذكير في كل لحظة بأن دماء غالية سالت من أجل هذا اليوم وأن هذه الثورة أمانة في أعناق الجميع، ولابد من الحذر الشديد للحفاظ عليها والحيلولة دون انتكاستها وقطع الطريق أمام من لهم مصلحة في مصادرتها أو تحويلها عن أهدافها. وعلى كل المواطنين الصادقين الذين صنعوا هذه الثورة أو التحقوا بها من مختلف الفئات الاجتماعية والمهنية والعائلات السياسية والفكرية الوفاء لدماء الشهداء، والارتقاء الى مستوى آمال الثورة بالعودة الى العمل والانتاج، وترشيد المطالب الاجتماعية بما يتفق مع واقع البلاد والمؤسسات مع مواصلة الاهتمام بالشأن العام سواء في ما يتعلق بنشاط الحكومة الوقتية أو بعمل اللجان المكلفة بالتحقيق والإصلاح السياسي، وذلك من أجل غاية واحدة هي الحفاظ على الثورة لتظل يد الشعب فوق الجميع من خلال من سيختارهم عن طريق الاقتراع الحر النزيه. منير بن ميلاد