خطوط عديدة ينشط عليها كل الذين يخافون من التغيير في مصر أو يرفضونه. وكلها تلتقي عند نقطة واحدة، الاعتقاد الحاسم باستحالة العودة الى الوراء، وفق ما قاله باراك أوباما هذا الصباح. لكن المضي الى الامام يترك اكثر من سؤال حول هذا الامام، وما يرسم له من خطوط. الواضح فقط هو تلك الخطوط التي يرسمها الشباب المعتصمون في ميدان التحرير. اما ما تعمل على رسمه دوائر حسني مبارك، أو دوائر النظام بدون حسني مبارك، ودوائر السياسة الأمريكية والاوروبية والاسرائيلية، فهو عبارة عن محاولات التفاف تتعدد وجوهها واساليبها، دون ان تختلف اهدافها. ولعل الواضح فيها هو ما جسدته عبارتان: واحدة لرئيس مركز دراسات جامعة بن غوريون، في اليوم الاول للثورة، والثاني ما قالته انجيلا ميركل في اليوم العاشر. الاسرائيلي قال ببساطة: نحن لا تهمنا الديمقراطية والاقتصاد في مصر، ما يهمنا هو السياسة الخارجية. اما ميركل فقد قالت: نخشى انه كلما طالت الأمور كلما اتجهت الى ما لا نحب. وما لا يحبه الغرب لهذا العالم العربي، وخاصة للدولة الاكبر فيه، كثير: أوله بالطبع ما يتعلق بتعلق بالسياسة الخارجية التي تحدث عنها الاسرائيلي، اي ان تتحول سياسات الدولة المصرية عن التحاقها المذل باسرائيل. وثانيه هو تخلي الدولة الكبرى عن تبعيتها المذلة للغرب وتحديدا للسياسة الأمريكية في المنطقة. اما غير المحبوب اطلاقا، فأمر يرتبط عضويا بهذين التخوفين وهو ارساء ديمقراطية حقيقية في مصر أو في أي دولة عربية، لان الديمقراطية الحقيقية تعني في أبسط تطبيقاتها، وصول الغالبية إلى الحكم، ولا يجهل اي مركز دراسات أمريكي او غربي ان اغلبية مواطني مصر وغيرها من الدول العربية لا يتمنون شيئا اكثر من التخلي عن هذه التبعية التي اذلتهم كثيرا. وفي مصر تحديدا، قد لا يكون موضوع هذا الذل السياسي، اضعف المحركات التي فجرت الثورة، لان الامر يتعلق اولا بالكرامة الوطنية والقومية التي تعود المصريون على ان تكون بلادهم رائدتهما، ولان جميع الواعين يعرفون انه لولا انتهاك هذه الكرامة لما جاعت مصر، ولما امتص الفساد دمها ولما انغرست اظافر القمع والتخلف في لحمها. لما باعت غازها لاسرائيل بخسارة اربعة مليارات دولار سنويا، لما قضت على زراعاتها لتحول «الفلاح المكتفي» الى متسول مساعدات اجنبية، لما فقدت امنها الغذائي، لما فقدت أمنها المائي وزعامتها لمنظمة دول حوض النيل، لما فقدت موقعها العربي بعد ان تآمرت على العراق، وأمسكت بيدها تشد الحبل على عنق غزة. الى اخر ما تكره المسبحة مما هو معروف. فما لا تحبه ميركل، والغرب معها، هو ان يتغير كل هذا وان تعود مصر الى قوتها وموقعها الطبيعي. وبما ان الانتصار على هؤلاء الذين يملؤون الشوارع بات مستحيلا، فانه من الافضل الالتفاف عليهم. التفاف رآه الغرب أولا بالتضحية بحسني مبارك شخصيا،في سبيل الابقاء على نظامه، وترضية المتظاهرين بحفنة من الاصلاحات، التي تنفس الاحتقان لكنها لا تشكل خطر الوصول الى المحظور. لذا رأينا هيلاري كلينتون تطلب منه الرحيل. لكن الذي كان يفهم الوضع اكثر، ويخافه اكثر هو الانتلجنسيا الاسرائيلية، ولذلك تحركت قوى الديبلوماسية الاسرائيلية، وقوى اللوبيهات الصهيونية في العالم كله، في حملة واحدة حامية لاقناع المسؤولين الأمريكيين والغربيين بان اللعب بالنار ممنوع لانه غير مضمون النتائج، وعليه خرج علينا باراك اوباما ليقول ان مبارك وحده يعرف ماذا عليه ان يفعل.. وما اعلان ذلك من على شاشة فوكس نيوز تحديدا الا الدلالة الابلغ على مصدر التحول. غير ان كل النشاط الخارجي لا يحسم ما يمكن ان يحسمه الصمود الداخلي، ومن هنا امسك اللاعبون بدائرة من الاوراق التي راحوا يلعبونها واحدة تلو الاخرى، وما يزالون. ولم تكن اخرها مفاوضات الامس مع الاخوان المسلمين. فثمة اوراق كثيرة ستطرح على الطاولة، وستكون اقواها واخرها، اذا ما فشلت كلها ورقة الجيش. ورقة لا يجوز استبعادها ضمن سياقين: الاول خطة أمريكية اسرائيلية مزمنة بتوريط الجيوش العربية في صراعات الداخل وابعادها عن صراعات الحدود. والثاني، ما لا يعلمه احد من اختراقات يمكن ان تكون قد تحققت خلال اعوام التنسيق الامني، والدورات الطويلة مع اسرائيل والولايات المتحدة. خطوط كثيرة لا بد ان يصبح الخط الموازي لها جميعا، خط تبلور قيادة واضحة للثورة، قادرة على صيانة الصمود وعدم السماح بتآكل الجماهير المحتجة، وعلى استشراف المستقبل والتخطيط الواعي للعلاقة مع عنصر الوقت.