تمر أوقاتنا هذه الأيام ثقيلة على النفس.. يومنا كالليل ظلاما وقهرا وقسوة وليلنا كموج البحر يضمنا كالقبر وحدة ووحشة.. بكينا ونحن مسمرون أمام قناة الجزيرة نشاهد الرعب ونتجرع الخيبة والحسرة فآه لو كان يجدي البكاء لبكينا كل العمر.. لو كانت دموعنا تجدي لحررنا فلسطين منذ سنين ولحررنا الشيشان وأفغانستان والعراق والصومال وحررنا كل الشعوب التي تقبع تحت الاحتلال هذا إن كانت هناك شعوب أخرى مستعمرة غير شعوبنا الإسلامية.. ولأغرقنا أعداءنا في بحر دموعنا ولأحرقناهم بزفرات صدورنا الملتهبة ولكن قد يعقب انهمار الدمع راحة من الوجد ويُبَرِّد زفرات قلوب أحرقها العجز وقهر حكامها لها.. ولكن لعمرك ما أتى دمع بنصر إذا لم يُسند هذا الدمع بخطى عملية تساعد إخواننا بغزة على الصمود.. شتان اليوم بين من تدمع عيناه وبين من يحمل سلاحه بيمناه وروحه بكفيه وهو يتصدى للعدو في ظل سماء صارت تمطر قنابل وصواريخ وحمما بركانية على سكان غزة.. كأن جهنم قد قلبت على رأسها في كل شبر من رفح وغزة وخان يونس والمنطقة الوسطى.. لكن المؤلم في هذا المشهد الدامي رغم صمت النظام العربي الرسمي الذي لا نستغرب مواقفه وجبنه وقد تعودنا عليها إزاء المحرقة التي تجري في غزة.. المؤلم هو أن جسم الأمة ابتلاه الله بأقلام مأجورة لا تتغوط إلا من فمها وهي تتهكم على شهداء غزة كما بلانا الله بعلماء السلطان يصافحون العدو ويتجاهلون ما يحدث في غزة ثم يكرسون واقع المسكنة والمذلة بما يفتون به وهم يتقلبون بين فتاوى الرضاعة وتحريم المظاهرات. ياعابدَ الحرمينِ لوْ أبصرتناَ لَعَلِمتَ أنَّك فَي العِبَادَة ِ تَلْعَبُ منْ كانَ يخضبُ جيدهُ بدموعِه فَنُحورُنَا بِدِمَائنَا تَتَخَضَّبُ أوْ كانَ يُتعبُ خيلهُ في باطلِ فخيولُنا يومَ الصبيحة ِ تَتعبُ ريحُ العَبِيرِ لَكُمْ وَنَحنُ عَبِيرُنَا رهجُ السنابِكِ والغبارُ الأطيبُ ولقدْ أتانَا منْ مقالِ نَبينَا قَولٌ صَحِيحٌ صَادِقٌ لا يَكْذِبُ لا يَستَوي غُبَارُ خَيِل الله فِي أنْفِ امرئ وَدُخَانُ نَارٍ تَلْهَبُ هَذَا كَتَابُ الله ;يَنْطِق بَيْنَنَا لَيْسَ الشَّهِيدُ بِمَيِّتٍ لاَ يَكْذبُ
تحرك الشارع العربي والمسلم بعقلانية كما قال بعضهم لم يكترث له حكامنا رغم هذه الألوف المؤلفة التي بحت حناجرها هتافا وصراخا لأنه ببساطة صار الرؤساء والحكام العرب يفهمون عقلانيتنا على أنها جبن منا وخوف لأنه ببساطة يتفرق شمل هذه الألوف بمجرد رمي قنبلة مسيلة للدموع أو ضخة ماء ساخن.. إذا لم يخف حكامنا ببساطة من أصحاب النياشين من قيادات جيوشنا العربية فكيف يخافون من شعوب عزلاء معزولة عن تقرير مصيرها.. حكام قتلوا فينا حب الحياة.. فهم أسود علينا نعام على العدو.. ماتت فيهم نخوة المعتصم وهذه وزيرة الخارجية الإسرائيلية قد هددت حماس من داخل مصر وربما أخذت الإذن بضرب حماس وقتل الفلسطينيين الذين اختاروها ذات يوم في الانتخابات من مبارك ورئيس مخابراته ووزير خارجيته الرومانسي وهو يمسك بيد تسيبي لفني مصاصة دماء الأطفال ويساعدها بكل رقة على النزول من منصة الخذلان العربي.. من فوق أرض الكنانة الغالية التي قهرت التتار والصليبيين عندما كان على رأسها أمير يخاف الله ويحب رعيته مثل سيف الدين قطز وإلى جانبه عالم جليل هو العز بن عبد السلام. مصر القلب النابض للأمة صارت هي باب السجن الذي يغلق في وجوه أهل غزة.. والآلاف من الشعب المصري يصرخون يتظاهرون : نعم لنصرة إخواننا بغزة بكل ما نملك من النفس والنفيس.. ولكن صَمَّتْ سلطتهم آذانها عن سماع دعوات مواطنيها حتى أنها حرمت المصلين من صلاة الجمعة.. بل الأدهى والأمر أنها تعتزم بناء جدار عازل بتمويل أمريكي يفصل بين غزة والأراضي المصرية.. لقد أسْمَعْتَ لوْ ناديت حيّا ولكنْ لا حَياة لمن تنادِ ولوْ نارا نَفَخْتَ أضاءَتْ ولكنك تَنفخُ في الرّمادِ ومثلما حدث للعراق: تأليب عالمي ضده.. حصار.. تجويع.. ثم حرب عشواء عليه برا وبحرا وجوا.. ثم أتي الخونة على ظهر دبابات أمريكية ليحكموا العراق.. دمى تحركهم أمريكا كما تريد يحكمون العراق نيابة عنها.. ويُعدم صدام لأنه تجاسر ذات يوم ونطح إسرائيل بصواريخ الحسين.. نفس السيناريو يتكرر اليوم ولكن هذه المرة مع حماس: ألبوا عليها الرأي العالمي.. أصبحت حركة إرهابية وهي التي وصلت للحكم عن طريق صناديق الاقتراع.. جوعوا سكانها .. وعزلوه عن العالم طيلة ثمانية عشر شهرا.. لا لسبب سوى أنها استعصت على التدجين فأرادوا اقتلاعها من جذورها.. إن قادة حماس فضلوا الانتصار لقضايا شعبهم على الكراسي المريحة وفتح الحسابات في البنوك الأوروبية كما يفعل الكثير من قادة فتح.. حماس فضلت الدفاع عن شعبها برمي العدو بصواريخ القسام محلية الصنع دون جبن أو خوف عن كل الإغراءات التي أغرت غيرهم وحولتهم إلى سماسرة يتاجرون بقضايا شعوبهم.. رحم الله ياسر عرفات الذي ظل يحافظ على وحدة الصف الفلسطيني حتى سمموه.. ومات عرفات وسقطت منظمة فتح في يد الخونة أمثال دحلان وعباس.. وزينوا لإسرائيل التي غادرت غزة ذات يوم صاغرة العودة إليها للقضاء على حماس.. جاء ذلك بعد حصار طويل من إسرائيل والغرب من جهة والنظام الرسمي العربي وعلى رأسه السعودية ومصر وحكومة عباس من جهة أخرى.. تجويع قصد التركيع وحصار قصد القبول بما تمليه إسرائيل وغلق لكل المعابر وحملة دعاية مغرضة بأن حماس هي التي خرقت التهدئة وجنت على أهل غزة.. ثم ها هي أطنان من القنابل تسقط على الأطفال والشيوخ والبيوت والمساجد والحيوانات والأشجار.. قنابل عمياء لا تستثني أحدا.. ثم تتحرك الدبابات أرضا لكي تدخل غزة وهي غارقة في النار والدم والجوع.. وفي قصره برام الله ينتظر محمود عباس ومحمد دحلان الدخول إلى غزة على ظهر دبابة إسرائيلية مثلما فعلها خونة العراق وخونة الصومال وخونة أفغانستان.. يكاد المشهدان يتطابقان لولا هذا الخط الفاصل الذي إن تشابهت فيه البدايات فلن تتلاقى فيه النهايات.. فالفرق بين المشهدين هو أن أهل غزة قلوبهم وعقولهم وسواعدهم وأسلحتهم مع حماس بينما أثناء غزو العراق كان صدام في واد وشعبه في واد.. وكان العراقيون يقاتلون عن نظام مستبد خوفا منه.. والفرق أيضا أن العالم العربي والإسلامي هب هبة عظيمة مساندة لغزة بينما ظلت نسبية في مساندتها للعراق.. هذا التلاحم بين أهل غزة وكتائب القسام وغيرها من المجاهدين هو الذي جعل الساسة والعسكريين الإسرائيليين أصحاب أقوى خامس جيش يرددون: مهمتنا هي إضعاف حماس وليس القضاء عليها لأنهم على يقين تام بأن حماس جزء من نسيج الشعب الفلسطيني وحاملة رايته نحو التحرر والمعبرة عن إرادته وحركة بمثل هذا الزخم الشعبي لن تجتث جذورها ولو اجتمع العالم بأسره على حربها.. إن حماس اليوم تقاتل نيابة عن أمة مهزومة من المحيط إلى الخليج مما أشعل حمية النصرة في هذه الأمة التي تبين لنا أنها لم تمت.. إن الإسرائيليين الإرهابيين قتلة الأطفال والنساء ومدمري بيوت الله بهجمتهم البربرية البشعة على غزة لا يتركون أي مجال لمن ظل يتغنى بالمبادرات الجبانة: الأرض مقابل السلام.. وإن قتلهم للأطفال لا يترك مجالا للتطبيع مع أجيال الأمة وشعوبها بعد الدمار والقتل والتشريد الذي رأوه على شاشات الفضائيات.. إن إسرائيل في كل مرة تؤكد لنا بأنها ورم سرطاني خبيث لا بد من اجتثاثه مهما طال الزمان ورحم الله أبا القاسم الشابي حين يقول في قصيدته: " فلسفة الثعبان المقدس ": وَسَعَادة ُ الضَّعفاءِ جُرْمُ، ما لَهُ عند القويِّ سوى أشدِّ عِقَاب! ولتشهد الدنيا التي غَنَّيْتَها حُلْمَ الشَّبابِ، وَرَوعة َ الإعجابِ أنَّ السَّلاَمَ حَقِيقة ٌ، مَكْذُوبة ٌ والعَدْلَ فَلْسَفَة ُ اللّهيبِ الخابي لا عَدْلَ، إلا إنْ تعَادَلَتِ القوَى وتَصَادَمَ الإرهابُ بالإرهاب من هنا لا يمكن أن تكسر إرادة شعب رضعت أجياله المقاومة وتوارثتها جيلا بعد جيل.. ومحال أن يقبل أحفاد القسام الدنية في دينهم وهم يحملون أرواحهم بين أكفهم وهم يرسمون أجمل لوحات الصمود والتصدي لخامس ترسانة حربية في العالم ركع لها خوفا وجبنا حُكامُ العرب واحدا بعد واحد إلا من رحم ربي.