تتدفق مشاهد الملايين في ساحات مصر والألوف في شوارع تونس وعمان وبيروت ونواكشوط تهتف فرحا برحيل حسني مبارك إلى المنفى حيث قد يلتقي سلفه التونسي بن علي. وتتلذذ الشعوب العزة بربط الأعلام ونداءات الحرية والوحدة بعد عقود التقزيم والتجزئة والمهانة وإذلال التمثيل العربي على موائد تسوية مزعومة في شرق أوسط رسم خرائطه المحافظون الجدد في الولاياتالمتحدة وامتداداتهم الفكرية والسياسية في اوروبا الغربية والمنطقة العربية. وإذا كانت تونس الثورة شعلة تفجر الغضب من أجل العدل والحرية ومكافحة الفساد والانفجار المشرق الذي ألهم المصريين فإن ثورة مصر قد تكون القاطرة التي ستقع على عاتقها ريادة المنطقة في طريق الإصلاح السياسي والتعددية الفكرية والقيمية. لكن خصوم الحرية في المغرب والمشرق العربيين لا يريدون النظر إلى الثورة التونسية و بركان مصر، طوفان التطلع للديمقراطية والعدل. ويحلو لهم وصف انعتاق الشعوب وارتفاع رايات الكرامة في الشارع العربي بخطر سيطرة الجماعات الاسلامية على المنطقة. ولم يجد حسني مبارك في الساعات الأخيرة من حكمه سوى الإيحاء إلى صديقه الاسرائيلي الوزير بنيامين بن اليعازر (الكلام منشور في الصحافة الاسرائيلية) سوى تخويفه والغرب من خطر «انتشار نفوذ الشيعة في الشرق الأوسط». وهذه الفزاعة رددها على مدى سنوات حكام تونس ومصر وغيرهم من الذين لا يملون كراسي الحكم وأصدقاؤهم الذين «خيروا» شعوب المنطقة بين وباء الدكتاتورية وكوليرا التطرف الديني. الدوائر الغربية واسرائيل تصغي لخطابات المرشد الأعلى للثورة الاسلامية في ايران آية الله علي خامنئي في الأسابيع الماضية عن «الشرق الأوسط الاسلامي» وخطابات الرئيس احمدي نجاد عن هزيمة الولاياتالمتحدة واسرائيل في يوم انتصار الثورة المصرية 11 فيفري 2011 مثلما منيتا بالهزيمة نفسها عندما أطاحت الثورة في ايران بنظام الشاه المخلوع قبل 32 عاما. هؤلاء يصمون آذانهم لدوي أصوات الحرية ولا يبصرون الانتفاضات المشرقة والتطلعات إلى الديمقراطية والانتخابات الحرة والنزيهة مثل بقية شعوب العالم. فلا يستسيغوا أن يستعيد العربي المواطنة والحلم بالحرية مثل بني الانسان لأن هذا المواطن الحر سيقول كلمته في الشأن الديبلوماسي والعلاقات مع الأطراف الخارجية، عندما ستناقش قضايا السياسة الخارجية في البرلمانات غير المزيفة. الدوائر نفسها كانت رأت، بعد احتلال القوات الأمريكية العراق في مارس 2003، بأن الظرف أصبح ملائما لفرض صفقات التسوية في الشرق الأوسط من خلال تقسيم المنطقة إلى معسكر المعتدلين (مصر ودول الخليج واسرائيل وجزء من لبنان السياسي وهذا الطرف المغاربي أو ذاك) ومعسكر الممانعة (سوريا، ايران، وحزب الله ولبنان وحماس) في نطاق ما أسمته وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس في صيف 2006. واعتبر الاسلام السياسي (فوز حماس في الانتخابات) والبرنامج النووي الايراني وقود الحملة على المعارضات العربية لأن التشكيك في هذه الأجندة يعني مساندة انتشار نفوذ الشيعة حيث لا يعقل «مساندة توسع النفوذ الايراني» ولو كانت الكلفة قبول التسوية بالشروط الاسرائيلية والصمت عن جرائم الدكتاتوريات العربية. وكانت الأجندة سبب انقسام النخب العربية بين مناصرين لأجندة المحافظين الجدد ومعسكرالاعتدال ضد مفكرين لايرون الممانعة عداء للمصالح العربية. الآن، سقطت أجندة تقسيم المشرق بين معسكر عربي اسرائيلي ضد معسكر عربي فارسي شيعي، بفعل ثورة النار في تونس وطوفان نهر نيل الحرية وكلاهما ليس بالغضب الديني أو الايديولوجي، بل ثورة الشباب وفئات المجتمع التي تتطلع للمساهمة مع البشرية في كتابة صفحات مشرقة. وكانت هذه الأجندة المفلسة خلفت استراتيجية «الشرق الأوسط الكبير» التي صاغها المحافظون الجدد في عهد الرئيس بوش الابن حين بشر في 2004 بنشر الديمقراطية في هذا الشرق الذي رسم حدوده من موريتانيا حتى أفغانستان. لكن العالم يشهد مع العرب على تركة بوش وسيشهد اليوم على تركة أجندة المعتدلين والممانعين وسيرون بأن الثورة في تونس ومصر لم تكن دينية، عكس ما يقول مرشد الثورة الايرانية، وانما هي من أكثر الثورات إشراقا في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وأن الشرق الأوسط الجديد سيكون ديمقراطيا، رغم شدة الصعاب وارتفاع حجم التحديات الاقتصادية والاجتماعية.