لقد أنذر اللّه ورسوله من يحتكر من أرزاق النّاس قمح أو أرطال زيت باللعنة الماحقة، فكيف لا يغضب على الذين يحتكرون ينابيع الحياة ووسائل الإنتاج احتكارا يفوّت على الدولة أغراضها ومصالحها؟ نحن نعلم أن الاقطاعيين يقفون بالمرصاد لكل محاولة تهدف الى تحديد الملكية أو تحديد إيجارات المساكن وتخفيضها وغير ذلك من وسائل الخداع والغش والاحتكار، ولكننا نعلم أيضا أن الحكومة المؤمنة بشعبها لا يزيدها هذا التربص إلا عزما وإصرارا، ثم إن الحكم الذي يشايع هوى هذه الطائفة ويتّسم بسيماها، لا بدّ أن تذهب ريحه ويصير من الخائنين. لقد قال ماكيافلي وهو الرجل الذي أصبح اسمه علما على سياسة الغش والغيلة والقسوة والدسيسة، والتماس النجاح بكل وسيلة، وبأية وسيلة، قال: «إن الاستناد الى الشعب أضمن لصيانة الحرية من الاستناد الى الأعيان والنبلاء الذين يتكلون على ما ورثوه ولا يزالون يطمعون في زيادته بالعسف والحجر على المحرومين. وإذا كان من المقرر أن سلامة الدولة يجب أن تكون فوق كل مصلحة أو شريعة، فإنه إذا وجبت وقايتها من غائلة تهدّد سلامتها فلا محل للبحث في النصوص والفتاوى ولا حرج من اتخاذ كل وسيلة لدفع الغائلة عنها. إن المثل الأعلى للحكومة في نظري هو الحكومة التي تسقط أمراء القطاع، وتنهض بالطبقات الدنيا وتؤمن الشعب على حريته ومعيشته ويلتفّ بها الشعب عن حب ومهابة وثقة لا عن خوف وخنوع واستسلام». ولعلّ هذا الذي يذهب إليه ماكيافلي يتمشى أيضا مع منطق أرسطو وفلسفته وهو يفرق بين الحكومتين الصالحة والفاسدة، فالحكومة صالحة في نظر أرسطو متى عملت لمنفعة الحاكمين، مثلها مثل كل أداة توضع لغاية، ولا تؤدي الحكومة غايتها إذا كانت لا تنفع رعاياها. وبمعنى آخر يمكن أن نقول إن الحكومات الصالحة هي التي تجمع بين الديمقراطية الاجتماعية. ويمكن أن نعرف الأولى بأنها كل شيء بالشعب والثانية بأنها كل شيء للشعب. وهذا بالضبط ما نأمل أن تكون عليه حكوماتنا، حكومات تعمل بالشعب وللشعب، حكومات تسمع أنّات الشعب وزفراته وتحسّ بكلومه وأوجاعه، حكومات تقيم لصوت الشعب وزنا. فهناك حكمة تقول: إن «صوت الشعب من صوت اللّه». حكومات تعمل جاهدة على إحقاق ما يراه اللّه والشعب عدلا، حكومات تخدم المصلحة العامة ولا تجوز فيها المطامع الشخصية على المطامع الكبرى أو قل حكومات من الشعب وبالشعب وللشعب. وإذا كنا نقول بالأمة الصالحة، فالأمة الفاسدة لن تتولاها حكومة صالحة، والأمة الصالحة لن تتولاها حكومة فاسدة. ولكن ما هي الأمة الصالحة؟ من الوهم أن يظنّ البعض أن الأمة الصالحة لا تعدو أن تكون سوى مجموعة أفراد صالحين، فقد يصلح المرء فردا ولا يصلح عضوا في أمة، ولا تعتبر الأمة صالحة إلا بفضائلها الاجتماعية التي يكسبها أبناؤها بالمراهنة الطويلة على الحياة السياسية. فالصلاح للمجتمع استعداد لا يكسبه الفرد بما تعلمه من المدارس والكتب ولكنه حاسة اجتماعية تتولد في الأمة من مرونتها على مزاولة الشؤون العامة أجيالا متعاقبة حتى تصبح رعاية المصلحة العامة عادة في أبنائها يباشرونها عفو الخاطر كأنهم لا يقصدونها ولا يتكلفونها مثلهم في ذلك الأعضاء التي تشترك في تغذية بنيتها وتوزيع غذائها بين أجزائها في غير كلفة ولا روية. ونكاد نقول إن نوع الحكومة لا يهم مادام المحكومون على قسط وافر من الحاسة السياسية عارفين بحقوقهم مقتدرين على أخذ الولاة باحترامها، غير أن المبدأ القائل ب«أن الحكم من الأمة للأمة» هو أصح المبادئ لمجاراة هذه الحاسة السياسية في وجهتها وهو المبدأ الذي يعطي المحكومين فرصة بعد فرصة لاختيار الأفضل من الساسة والأكفاء من القادة والولاة ورؤساء الدواوين.