٭ بقلم: محمد صالح مجيد (كاتب وأستاذ) الوطن أكبر من الأشخاص.. حقيقة ثابتة يغيّبها كثيرون ممّن تعوّدوا التمسّح على الأعتاب، ويستهين بها الطغاة حين يسكنهم شيطان العظمة.. يموت الأفراد.. وتفنى الشعوب.. وتبقى الأوطان في مكانها، تجدّد مياهها وصورها بتجدّد أجيالها. ولن يخلّد سياسي في كرسي الحكم مهما حرص حرْصَ العقيد الذي قضى أكثر من أربعين سنة في الحكم ولم يَشْفَ بعْدُ من حبّ الكرسيّ. وإن مرض عبادة الأشخاص الذي أصاب كثيرين بداء لا يرجى منه شفاء، قد تفشى وانتشر حتى أدّى بتونس إلى هوّة الإفلاس، وبليبيا إلى ما يشبه حرب تطهير عرقي. على أن إدانة كل عاقل لتأليه الأشخاص على اختلاف مناصبهم السياسية تقتضي إدانة أساليب الإهانة المنظمة لكلّ مسؤول سياسي اجتهد، وحاول، من موقعه، أن يساهم في خدمة بلده. وعلىهذا النحو فإن الحقيقة التي لا تخفى على كلّ متابع للمشهد السياسي بتونس، هي أن السيد محمد الغنوشي رجل الاقتصاد، والسياسي المخضرم الذي عمل في حكومات متعاقبة وزيرا فرئيسا للوزراء، قدّم للبلاد ما لا يمكن إنكاره بمجرّد جرّة قلم، أو خطبة حماسية في ساحة عامّة. ولا خلاف حول نجاحه مرّة وفشله مرّات. وهل خلا عمل السياسي من المزالق؟ أليس من الجحود الإساءة إلى شخصه بما لا يمكن أن نجد له مسوّغا؟؟؟ ليس الغنوشي بحاجة إلى دفاعي عنه. ولست أطرح على نفسي الدفاع عن خياراته السياسية والاقتصادية لكن ما يجب أن يرسخ في ذهن كلّ مهتم بعالم السياسة، أن للمعارك السياسية والايديولوجية أخلاقيات وضوابط أقلّها احترام الطرف الآخر في شخصه وفي شرفه. ومن العيب اتهام محمد الغنوشي بالفساد دون دليل. وقد انزلق كثيرون، في الأيام العصيبة هذه، إلى خطاب التخوين، والرجم بالغيب، واتهام الأشخاص بالعمالة والسرقة دون تحرّ أو تروّ. وكأنّ كلّ فرد في هذا المجتمع يريد أن يصبح قاضيا ينصب المحاكم في الشوارع لينفّذ القانون. ومن المفيد لتونس، الآن والمستقبل، أن يُنير كلّ من يملك ملفا يُدين الغنوشي، ويؤكد تورّطه في الفساد الرأي العام، وأن يساهم في استرجاع المال العام، والقصاص من كل من تسوّل له نفسه العبث بثروات المجموعة الوطنية. على أنه في المقابل يجب على من لا يملك أدلة موثّقة أن يلتزم بآداب التخاطب والتحاور لأن اتهام النّاس دون دليل أو برهان يتعارض مع أبسط قواعد الديمقراطية التي نريد جميعا بناءها على أسس سليمة ومتينة تقطع مع كلّ أشكال الفساد والإفساد. ومما يزيد الأمر غرابة، أن بعض الأطراف التي تتهم الغنوشي بأنه تركة بن علي لا يقلّون عنه حضورا في قصر قرطاج أيام كان الدكتاتور يملي شروطه، ويتآمر على الجميع بلغة التهديد والترويع!!! إن اتهام الغنوشي دون أدلة، وإدانته بمثل هذه الطريقة التي تفتقر إلى أبسط قواعد التعامل الحضاري تؤكدان أن بعض الأطراف السياسية لم ترق إلى مستوى القطع مع أساليب العهد البائد القائمة على الاتهام والتدنيس لإرباك الخصم، وتجنيد الإعلام لتسديد اللكمات إلى الخصوم. أليس مثيرا للاستغراب والدهشة أنه لم يعد مطروحا على الثورة التي قادها شباب آمن بحرّيته فتحدّى الدكتاتور، إلا إسقاط محمد الغنوشي الراحل بطبعه في منتصف مارس أو على أقصى تقدير في نهاية جويلية!!! هل جُمع الشرّ كلّه والفساد في شخص هذا الرجل؟؟؟ وهل من الثورة أن نتحوّل فجأة من عدم القدرة على اللّحاق بسيارة «سيادة» الوزير إلى إهانته، والطعن في شرفه دون أن ننتبه إلى أنّ للرجل أسرة وأبناء!!؟ لقد انسحب الغنوشي الآن. وعاد إلى منزله معتكفا يرقب المعتصمين والمعصومين من الخطإ الذين خرجوا فجأة من قمقم التاريخ ليحاسبوا الناس على نواياهم، ويرمونهم بالظنّ. وسيكون مفيدا لتونس أن ينجح هؤلاء الذين لم يكن لهم من مشغل ومن هدف إلا كيل التهم لهذا الرجل، في تجهيز ملف يثبت بالدليل والحجة أنه كان متورطا في الفساد. إن أكبر داء يُصيب إنسانا هو أن يتحوّل إلى شكّاك يتّهم الجميع، ويوزّع نظرية المؤامرة أينما حلّ. ولا أعتقد أن عاقلا يمكن أن يقبل سوء معاملة شخص مهما كان منصبه، أو أن ينظر بعين الاطمئنان إلى المقالات المهيّجة التي تستهدف شخصه بلا دليل. لكن يبدو أننا ودّعنا الدكتاتور بلا أسف. وفي المقابل، لم ننجح في التخلّص من أسلوبه في الاقصاء والتشويه الذي تشرّبناه طيلة هذه السنوات وانفجر عند البعض حقدا واعتداء. غادر محمد الغنوشي الوزارة الأولى. ولم أكن، في يوم، من أنصاره أو مريديه.. ولكن ما لم يتعلّم السّاسة من موالين ومعارضة، أن الصراع السياسي هو صراع أفكار وبرامج يقفز على المسائل الشخصية والاتهامات الجزافية التي لا تستند إلى ملفات واضحة فإن الديمقراطية في أوطاننا ستظلّ بطّة عرجاء. لقد آن أوان المحاسبة للجميع إذن. ومن الضروري أن تفتح كلّ الملفات في أطر قانونية تقطع مع الرمي بالظنّ، فمن حقّ الشغيلة، بعد الثورة، أن تعرف حقيقة ما تقوم به المركزية النقابية بكل شفافية، وأن تنفذ إلى كواليسها ومؤتمراتها ومؤامراتها دون أن تُرفع في وجه كلّ مطالب، فزّاعة «لجنة النظام».. ومن حق كل تونسي عانى طويلا من التعتيم أن يعرف حقيقة مصادر تمويل أولئك الذين كانوا يتمعّشون، في الخارج، من معارضة بن علي، ويغنمون بدموع الشكوى أموالا سخيّة تقيهم من ظلمه، وتمنحهم قدرة عجيبة على التحوّل من مطار إلى آخر. من الواجب خضوع الجميع دون اعتبارات سياسية أو فئوية إلى المحاسبة لكن في أطر قانونية وشرعية بعيدا عن لغة الانتقام والتشفّي. في الأخير نقول: إن كان من حقّ كلّ فرد أن يرفع شعار «الشعب يريد إسقاط الحكومة»، فإن مبادئ الثورات الشعبية وقيمها لا يمكن أن تسمح برفع شعار «الشعب يريد إحكام السقوط».