في تحولات سياسية عميقة أطاحت بأنظمة إقليمية تقليدية في العالم العربي وأعادت رسم المشهد السياسي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في اهتزازات اجتماعية أشبه بالزلزال، هبّات جماعية لشعوب مقهورة حطمت أوثان الاستبداد واقتلعت مفهوم الحزب الواحد والقائد الأوحد ونظام الحكم المطلق.. في فوضى التحولات ترى الكل يبحث عن ذاته، عن موقع له من فوق التلّة.. وينزع البعض لباسه ويغير آخرون ألوانهم، وآخرون يبدلون اللغة التي بها نطقوا زمنا طويلا.. ويتنادى الكل الى قميص عثمان أو قميص البوعزيزي والجميع يطالب بدمه وبالقصاص حتى قتلته أيضا يصرخون طلبا للعدالة من سفاح توارى خلف ستار. تغيرات مخيفة ومدهشة تتدافع في زمن قصير في تونس ومصر وليبيا، تستدعي قراءة متأنية للماضي القريب، فالخارطة السياسية في تونس فاجأها الزلزال، كان فراغا واسعا، ثورة بلا قيادة ولا أحزاب، تغيب عنها الشخصية القيادية الكارزماتية التي تتمتع بسلطة أدبية على الناس، تلك الشخصية التي يلتف حولها البعض وتنادي بها الجماهير ويرضى بها معارضوها، نحن في حاجة الى قيادات سياسية يثق بها الناس ويقبل العالم الخارجي أن يتعامل معها بحكمة وعقلانية واعتدال دون خضوع. في ظلّ هذا الفراغ تاه الناس، بعد أن منعت عنهم حرية التفكير في السياسة لأكثر من عشرين عاما، أجيال جديدة ولدت ونشأت وهي لا تعرف الايديولوجيا المعاصرة أو الأفكار السياسية من حولها، تشعر بالظلم إلا أنها لا تحسن توصيفه، اليسار الماركسي أو القومية العربية أو الاسلام السياسي أو العلمانية أو الفكر الليبرالي.. وإذا بهؤلاء الشباب في حيرة إزاء أسماء مثل حمة الهمامي أو نجيب الشابي أو راشد الغنوشي أو أحمد المستيري، وهم لا يعلمون كذلك، أن في ثقافتنا مفكرين بارزين من أمثال محمد عابد الجابري ومحمد أركون وبرهان غليون وحسين مروة وعبد اللّه العروي وهشام جعيط وغيرهم كثير.. هذا الفراغ لم يستطع السياسيون المعارضون في تونس أن يملؤوه، بعد أن تمّ تغييبهم دهرا طويلا عن الساحة السياسية بإكراهات العنف، وهم يحتاجون الى وقت طويل حتى يعيدوا تجميع قواهم أو التأثير ثانية في جماهير مجيشة إلا أنها تفتقد الخبرة والمعرفة بأفكار السياسة. وهنا كانت قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل تبحث عن مواقع جديدة لها في القرار السياسي، إرادات تكتسح مجالا سياسيا أوسع من المطالب النقابية وهو مطلب مشروع أن يشارك الاتحاد في الهموم الوطنية إلا أنه مطلب مغلف برغبة خفية في التخلص من تركة الماضي، أن يشطب بجرّة قلم كل ذلك الموروث الثقيل من الولاء لنظام بن علي طيلة فترة حكمه، ولا يمكن لقيادة الاتحاد أن تدعي أنها كانت تعارض النظام السابق، إنما كانت حليفة مخلصة له وتلبس جبته، وإلا لما أمكن لها أن تستمر في الوجود في دولة استبدادية لا تعترف بالمعارض.. بعد 14 جانفي، أصبح الاتحاد يتصرف مثل حزب سياسي قوي، في ظل ترهل الاحزاب المعارضة التي أضعفها قمع الدولة الكليانية، أو أحزاب أخرى كرطونية مصنوعة من ورق كانت تشارك في مسرحية الديمقراطية الوهمية التي تدافع عن بن علي أكثر من دفاع التجمعيين عنه.. تحول الاتحاد الى حزب في عباءة العمل النقابي، إلا أنه حزب بلا ايديولوجيا أو أفكار أو برامج سياسية لأن المطالب النقابية لا يمكن أن ترتقي الى مستوى العقيدة السياسية أو الفكر السياسي، إن الاتحاد يكتسب شرعيته من معارضته لكيان الحكومة القائمة، بعد أن كان يكتسب شرعيته من تحالفه مع الحكومة البائدة، وعليه أن يختار بين أن يكون حزبا أو أن يكون نقابة لان العمل السياسي ينتهي الى المتاجرة بالنقابة وبحقوق العمال في سياق التحالفات والمصالح. ثم ان استمرار تأزم الاوضاع السياسية في تونس يصرف النقابيين عن خلافاتهم الداخلية المعقدة الى حين، والمبدأ هو المدافعة عن حقوق الطبقة العاملة كهدف أسمى، قد يحتاج الاتحاد الى قيادات نقابية جديدة لاصلاح الاتحاد من الداخل وحفظ التوازنات الاجتماعية، فاللعبة الديمقراطية تقتضي التداول على القيادة، مثلما عليه ان يقبل بالتعددية النقابية وان يتخلص من تركة الاستبداد لفكرة الحزب الواحد أو النقابة الواحدة... وفي الاحزاب السياسية ينظر الجميع بحذر الى الاسلام السياسي الذي تتزعمه النهضة، كمعارضة عائدة ذات مرجعية دينية، كانت حركة جماهيرية متماسكة ومهيمنة ومنافسة لنظام بن علي الجديد في نهاية الثمانينات، الا أنها انهارت أمام الضربات الامنية الموجعة، وانتهى بها الأمر الى السجون والمنافي وتعرضت الى كل طرق التنكيل غير الانسانية... وتحالف الجميع مع بن علي وصفقوا حين سقط الثور الاسلامي ثور ابن المقفع وفرحوا حين تخلصوا من أعتى الخصوم السياسيين، وكانوا شهودا على مذبحة تونسيين الا أنهم اسلاميون... أصبح التعبد أو التدين تهمة اجرامية تستوجب أقسى العقوبات... وتحول الاسلام السياسي الى تهمة بالكفر، كفر بالدولة وبالمجتمع المدني... حركة النهضة كانت تمثل بعمق، تيارا دينيا اسلاميا الا أن قيادتها قد أساءت فهم الواقع السياسي في بداية عهد بن علي، مثلما اخطأت في استقراء النظام الدولي الذي بدا يتشكل بعد حرب الخليج الأولى وهزيمة الجيش العراقي في الكويت، حين شرعت الولاياتالمتحدة في تثبيت سيطرتها على عالم عربي ضعيف ومنقسم، وبدأت أنظمة الرفض التي تلتحف بلحاف الوطنية تتهاوى لتعلن البيعة للسيد الأمريكي المهيمن واصيبت الذات العربية بانتكاسة كبرى... كانت حركة النهضة معبّأة جماهيريا كما لم يكن أي حزب سياسي في تونس من قبل، شباب مندفع بروح دينية وحماسة غير مسبوقة الا أن النهضة اخطأت في حق هذا الشباب حين زجت بهم في معركة خاسرة وغير مدروسة العواقب... وقيادة النهضة تتحمل كامل المسؤولية في تلك النكبة الانسانية المؤلمة تجاه ابنائها... ها هي تماما موضع تونس في المعادلات الاقليمية والدولية، قد يخرج من هذه الحركة جيل جديد على شاكلة حزب العدالة والتنمية في تركيا يرفع عن الناس الخوف من الاسلام السياسي ويقبل بفكرة الديمقراطية. في المقابل كان اليسار ضعيفا في بداية عهد بن علي، تهاوت ايديولوجيا ماركس مع انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين وانقلبت انظمة اشتراكية استبدادية في كامل أوروبا الشرقية، وتحول اليسار في تونس الى مجرد اثار للتيارات اليسارية المناضلة في الستينيات من القرن الماضي... تحول اليسار فكريا ليصبح فكر النخبة العلمانية الا أن هذه النخبة قد ارتمى قسم منها في نظام بن علي الذي كان يحتاج الى مثقفين قادرين على مواجهة الاسلام السياسي ايديولوجيا، واصبحوا جزءا من التجمع الدستوري الديمقراطي كحزب حاكم متضخم... قسم آخر من اليسار تمسك بمبادئه الفكرية والانسانية واستعصم بتاريخ النضالي الا أنه ظل ضعيفا بين انحسار الفكر الماركسي كايديولوجيا عالمية، وبين قمع الدولة الامنية المستبدة... كان حمة الهمامي مثالا لليساري العنيد مناضلا ثابتا في مواقفه السياسية الا أنه وحيد في معركة غير متكافئة... وهذا التيار جدير بأن يكون له حيز في اللعبة السياسية حتي يتحقق التوازن بين الأفكار المتعارضة نقصد ما بين الديني والعلماني، اليسار حامل المرجعية الماركسية مدعو الى الاقتراب من جماهير باتت لا تعرف عنه الا القليل، ان يقدم المبادئ الفكرية لايديوليجيته...