كنت على موعد صباح الجمعة في احد المقاهي المكتضة بالعاصمة وكان الضجيج يملأ المكان حتى لا نكاد نسمع محدثك... وشيئا فشيئا خفتت الأصوات، الأمر الذي أيقظ فضولي وبعض دهشتي فالتفت أسأل أحد العملة عن السبب في معجزة غياب الصراخ المعتاد فاعلمني بأن الوزير الأول الجديد بدأ خطابه في التلفزة. اقتربت أكثر من الجموع المتحلقة أمام الشاشة وعلى وجوههم تركيز واهتمام... وبعض الأصوات الخافتة تنهر وتتصدى لمن يقطع حبل هذا الاهتمام ولكن ما هي الاسباب الكامنة وراء هذا التغير المفاجئ، فالتونسي أصبح هذه الأيام مهموما مكدودا يبدأ نهاره بالصراخ والمظاهرات الصاخبة واذا جمع المذياع جانبه يسمع ما لا يسره واذا جلس أمام التلفزة فكمن يلتجئ بالرمضاء من النار... كل المتحدثين ينعقون ويصرخون حتى لتكاد تغيب ملامح الحقيقة وتفقد انبل الكلمات والرموز معناها ويصبح الكذب والتضليل سيد الموقف. واذا بي أرى الوجوه صامتة والعيون منتبهة والتركيز على اشده في الاستماع للسيد الباجي قايد السبسي حاولت أن استكشف لماذا؟ وماذا قال الرجل بعد هذا العمل المديد (أمد الله في انفاسه): تسمر الناس للاستماع الى نبرة الصدق مع سهولة في الاداء وقدرة فائقة على تقديم ما يسد رمق الناس وما يتوقون للاستماع اليه حول مشاكلهم ومستقبل بلدهم بحديث عن الحرية الثمينة التي اتت بها ثورة الشباب المباركة، ولكن في سياق ضرورة التمسك بهيبة الدولة، لأنه بدون دولة مهابة وقوية لن تستقيم الثورة ولن تصان الحرية. تحدث عن ضرورة اعادة الأمل الى النفوس منبها بأن الطمأنينة لن تكون وليدة الفوضى... وانما دعامتها هي العمل الجاد و«الصدق في القول والاخلاص في العمل»... ولئن بدت هذه المقولة «قديمة ومعيرة» فإن التذكير بها في هذه الأيام العصيبة قد يأتي بالصحوة المرجوة قبل فوات الأوان». تحدث عن عودة التوازن والمسؤولية للخطاب السياسي في زمن غابت فيه مسالك الحقيقة وازدهرت فيه سوق المزايدات والبطولات اللفظية واختلطت المفاهيم وظلت تونس بثورتها الوليدة حائرة الى أين تسير؟ ومع من؟ وكيف تجتاز الزوابع التي تتهددها؟ تحدث عن الفرق بين رجل الدولة ورجل السياسة وكيف ان رجل الدولة مطالب بالنتائج الملموسة وملتزم بالانفتاح على الجميع والعمل مع كل أصحاب العزائم الصادقة في حين ان رجل السياسة بمعنى (البوليتيك) انما هو «حاوي ثعابين في ساحة الفناء «كثيرا ما يتحول مع تكرار الخطاب ذاته الى «حداوي» مثلما كان الحال بالأمس هو كذلك اليوم وغدا». تحدث الرجل عن الصراحة والشجاعة في شؤون الدولة مع الحرص على العدالة في المحاسبة والتدقيق في اتخاذ القرار والجرأة في طرح قضايا الأمة... وهو أمر جاءت به خارطة الطريق التي تضمنت الثورة الدستورية التي تتهيأ لها تونس في المرحلة القادمة من أجل بناء الجمهورية الثانية. تحدث الرجل عن نظافة اليد في «حكومة تسيير الاعمال» لأنها أيضا حكومة «انقاذ وطني» وقدرة على اتخاذ القرار وتثبيت الأمن للوطن والمواطن واعادة دورة الحياة لشرايين الاقتصاد الوطني والأمل لنفوس المواطنين تحدث كذلك عن ضرورة التواصل مع الرأي العام الحائر بين الوعود الكاذبة والواقع المرير وكيف ان الاعلام الحق لا يمكن ان يترك الساحة للتضليل الاعلامي... ولا شك ان حالة الانفلات الاعلامي السائدة هذه الأيام وسموم الكلام المدلوقة على موائد القنوات التلفزية جعلت التونسي يعيش مكدودا وعاجزا عن المشاركة في صياغة النهضة التي هو جدير بها. لقد شعرت بعد هذه الاطلالة الأولى للوزير الأول ان المواطن التونسي مازال قادرا على التجاوب مع الأمل، وان الكلمات الصادقة والمعاني الجوهرية جعلته يستفيق كمن كان في غيبوبة عميقة... وطفت أسأل عما وجدتم في هذا الحديث فكان الجواب واحدا متكررا: تثبيت الامن واعادة بناء هيبة الدولة، والقضاء على طفيليات الثورة التي تهددها، والابتعاد عن التهريج الاعلامي، والانصراف الجاد للعمل في الحال لانقاذ سفينة الوطن مما يتهددها من أخطار شرقا وغربا ومن بين الصلب والترائب... ولعل من بشائر هذا الخطاب الأول ان قائله هو رجل دولة وذو شخصية نافذة تجمع بين الصلابة في المواقف والمرونة في الوسائل مع التجربة العريضة والأفق الواسع ولعمري انها مزايا تسمح بالأمل في المستقبل.