الحديث كثير وكثير عن الحرية والديمقراطية والشفافية والانتخابات النزيهة والصحافة المنطلقة، والقضاء المستقل العادل والمنصف في هذا المجال الثوري الذي نعيش فيه، كل هذا ضروري، ولكن قل ما سمعنا عن أمرين اثنين لا بد منهما للبناء الديمقراطي الحقيقي، كلاهما يدخل في السلطة المضادة التي بدونها وبدون حدها من السلطة القائمة لا مجال للديمقراطية. أولاهما التداول على السلطة، ومن رأينا أنه وجبت كتابة ميثاق التزام توقعه وتلتزم به كل جهة تدخل الانتخابات أي انتخابات، تتعهد فيه بدورية العملية الانتخابية زيادة على نزاهتها، وكذلك باحترامها النتيجة التي تخرج من صندوق الاقتراع وتنحني أمامها، وتغادر الحكم أي حكم سواء مركزيا أو جهويا أو محليا، عندما لا تكون تلك النتيجة لصالحها. وإني لأذكر التجاذبات التي وقعت في سنة 1988 عندما كانت تجري صياغة الميثاق الوطني في تلك الحقبة، وكان من وجهة نظري إنجازا وقعته كل الأطراف بما فيها النهضة والتزاما سياسيا وأخلاقيا كان من خرقه هو السلطة الجديدة أي بن علي ومن كان معه. فقد كان من ضمن مبادئ ذلك الميثاق تنصيص على القبول بسنة التداول والخضوع لحكم صندوق الاقتراع، وفي ما أذكر فإن كل الأطراف قبلت، غير أن ذلك اصطدم على ما أذكر برفض قاطع من قبل الرئيس السابق، واضطر محمد الشرفي الذي كان يشرف على صياغة ذلك الميثاق إلى التراجع. غير أنه بدا واضحا أن وراء عدم التنصيص على سنة التداول غاية في نفس يعقوب، وإن كان بدا للبعض أنه تعبير عن عدم تزييف الانتخابات اللاحقة، بعد أن كانت حصلت عملية تزييف انتخابات جزئية في دائرة قفصة. إلا أنه سيبدو لاحقا أنه ما كان للرئيس السابق أن يصر على حذف ذلك المبدأ، لأن مسألة التداول لم تكن لتطرح مطلقا على اعتبار أن كل الانتخابات اللاحقة قد تم تزييفها، وإني لأذكر ذلك الصحفي الكندي الذي قال بعد إعلان وزير الداخلية عن نتيجة الانتخابات الرئاسية وكانت فوق 99 في المائة: إن هذا لا يمكن أن يدخل إلى دماغي وضرب بسبابته عدة مرات على جبينه، كما لا يمكن أن يدخل إلى عقولنا نحن في الغرب. وأذكر أني سئلت مرة، لست أذكر إن كان ذلك في سنة 1989 أو 1994 لماذا تقول في كتاباتك الصحفية « النتائج الرسمية المعلنة للانتخابات» ولا تقول النتائج فقط، وفهمت أن قصدي من ذلك قد تم فهمه، وأنني لا أعترف مثل الكثيرين غيري بتلك النتائج، وتمنيت أن ذلك الفهم لم يحصل فقط لدى الدوائر الرسمية ولكن عند عموم القراء. إذن وفي المؤمل من تغيير فعلي في التعامل مع الانتخابات ابتداء من تحرير قائمات الناخبين، وحتى ظهور النتائج الفعلية، أن يقع التزام بالالتزام بسنة التداول فيما إذا حصل وانهزم من يتربع على سدة السلطة مهما كان مستوى السلطة، كما نرى في البلدان الديمقراطية، و أن يغادر تلك السدة ويترك مكانه لمن فاز عليه. أما ثانيهما فهو قيام سلطة مضادة فعلية، لا فقط على المستوى الوطني ولكن أيضا على مستوى الجهات والأقاليم. وإن المرء ليدرك أن الانتخابات الشفافة والنزيهة لا بد أن توفر سلطة مضادة في مستوى الحكم، ولكن ليس دائما، فالحزب الفائز ولعلها الأحزاب المؤتلفة التي تشكل الحكومة، ستجد من برلمان من لونها ما يدفع إلى التقصير في محاسبتها رغم أن النائب مستقبلا سيكون عرضة لمحاسبة ناخبيه، وليس مسقطا أو «منتخبا» بفضل «السلطان» ومنته . ولذلك فلا بد من سلطة أو سلطات مضادة في مستوى آخر. وهنا يمكن التفكير في أمرين اثنين: أ) لامركزية حقيقية وفعلية، لا تخفيف محدود عن المصالح الإدارية في العاصمة بإقامة إدارات جهوية، ليس لها صلاحيات فعلية، أو ربما هي صلاحيات محدودة جدا. ب) إنشاء مجالس إقليمية، تكون صلاحيات كل واحد منها ممتدة على ولاية أو ولايتين أو ثلاثة بحسب حجمها وجوارها وتكاملها. وفي التجربة الفرنسية المنبثقة من الدولة المركزية أو الألمانية المنبثقة من الدولة الفيدرالية (والتي لا نستسيغها ولا نقدر عليها)، ما نجد فيها الجواب لتصورات في الامتداد والصلاحيات مع التطعيم بالأوضاع الخاصة بنا. وإذا رأينا خريطة بلادنا فإننا لن نعدم من التفطن سريعا إلا أننا يمكن أن نتوقف عند 6 أو 7 أقاليم تكون متوازنة سكانا، وإن كانت هناك استحالة على قيام توازن مساحي. ونحن نعرف أن حساسيات ستقوم في مجال اختيار عاصمة كل إقليم من تلك الأقاليم، وهناك طريقتان للحسم، إحداهما اعتماد الاستفتاء بين سكان الولايات المنخرطة في إقليم واحد، وثانيهما وبالتوافق اختيار المدينة الأقل حظا لإعطائها فرصة للنهوض والتوسع وقيام نشاط سياسي اقتصادي فيها من شأنه إحيائها وتركيز حركية ما كانت لتعرفها. وإذ تبقى الولايات كما المقاطعات في فرنسا، فإن مجالس الأقاليم المنتخبة ستكون بمثابة الحكومات الإقليمية بسلطاتها التقريرية والتنفيذية التي تتولى أنشطة يتم سحبها من المركز فيخف الضغط عن العاصمة وبالتالي يتقلص تعملقها المتعاظم. غير أن الهدف ليس ذلك فقط، بل يتمثل في قيام سلطات مضادة تخفف من السلطة المركزية وثقلها واحتكارها لكل القرار وفي كل الميادين، وفي احتمالات معينة تكون تلك المجالس للأقاليم من أغلبيات ليست الأغلبية المتوفرة في المركز أو عاصمة البلاد وربما تكون مضادة لها، وبالتالي يتم التجاذب والتنافس لما فيه مصلحة البلاد، وتنعدم احتمالات سيطرة معينة لا وجه لمجالات توازن تحد منها، وتدفعها إلى ما يمكن اعتماده من المثل الشائع .. وفي اختلافهم رحمة. إن الديمقراطية التي ستحققها الثورة بعد أكثر من نصف قرن من الديكتاتورية والكليانية التوتاليتارية لا بد أن تقوم على سلطات وسلطات مضادة وبغير ذلك يخشى حقا من الانتكاس، والعودة إلى التسلط والحكم الفردي الانفرادي وغياب التوازن وبالتالي الفشل الاقتصادي والاجتماعي في آخر المطاف. • كاتب صحفي رئيس التحرير السابق لجريدة الصباح