...بعد أن علم رضا قريرة وزير الدفاع الوطني (السابق) بأمر هروب الرئيس المخلوع وذلك في حدود الخامسة والنصف من مساء 14 جانفي أذن مباشرة من مكتبه بالوزارة لأحد الضباط السّامين الموجودين آنذاك في مطار العوينة بإيقاف علي السرياطي فورا (الموجود بدوره في المطار)...ثم اتصل بالوزير الأول محمد الغنوشي ليعلمه بهروب بن علي وبإيقاف السرياطي من ناحية وليسأله عن مكان وجوده، فأعلمه الغنوشي أنه أمام مدخل قصر قرطاج. وفي هذا الجزء الثاني من الحديث الذي أدلى به السيد رضا قريرة ل «الشروق» نكتشف حقائق أخرى مثيرة عمّا حصل، مباشرة بعد هروب بن علي، في قصر قرطاج وأيضا بمقر وزارة الداخلية فضلا عن حادثة مأساوية أخرى كادت ستحصل بمطار العوينة عند محاولة أفراد من عائلة أصهار الرئيس المخلوع مغادرة البلاد بدورهم... وتطرق محدّثنا بالمناسبة الى مسألة شغلت بال التونسيين كثيرا قبل وبعد 14 جانفي وهي المتعلقة بإمكانية تسلّم الجيش الحكم...كل هذا إضافة الى شهادات تاريخية أخرى قال محدثنا إنها موثقة بالتسجيلات الصوتية للمكالمات الهاتفية ومدعمة بشهادات مسؤولين وإطارات عليا بالدولة... حسب ما أعلمه به ضباط جيش الطيران الموجودين بالمطار فإن رحلة الرئيس المخلوع وأفراد عائلته كانت مبرمجة على حدّ قول محدثنا الى جربة(حسب مخطط الرحلة Plan de vol)... غير أن الطائرة الرئاسية إختفت من المجال الجوي التونسي ودخلت الى الأجواء الليبية وفي هذا الإطار يؤكد رضا ڤريرة أنه لا أساس من الصحة للرواية التي قالت إن طائرتين حربيتين رافقتا طائرة الرئيس الهارب الى مالطا ثم عادتا الى تونس. تبادل اطلاق النار في المطار؟ عندما أمر محدثنا الضباط الموجودين بالمطار بإيقاف السرياطي وتجريده من هاتفه وسلاحه، أعلمه أحد الضبّاط أنه من المتوقع حصول اشتباك مسلح بين قوات الجيش من جهة وعناصر أمنية من جهة أخرى بسبب إيقاف أفراد من أصهار الرئيس المخلوع. ويقول رضا ڤريرة في هذا المجال «بادرت بتحذير القوات العسكرية الموجودة هناك من تبادل استعمال الرصاص ودعوة الضباط الى ضبط النفس وهو ما تم فعلا، حيث شاهدنا في ما بعد عبر التلفزة كيف تم إيقاف هؤلاء الأفراد ونقلهم في هدوء الى احدى الثكنات العسكرية». دعوة لقصر قرطاج اتصل رضا ڤريرة وفق ما ذكره بالوزير الأول محمد الغنوشي عبر الهاتف في مكتبه بالوزارة الاولى، وذلك في حدود السادسة مساء فقيل له إنه غادر المكتب... عندئذ اتّصل به عبر هاتفه الجوّال ليعلمه (الغنوشي) أنه موجود أمام مدخل قصر قرطاج... ويضيف المتحدّث «سألته بشيء من العصبية وقد كنت فعلا على أعصابي آنذاك في ظل تسارع الأحداث وغرابتها ماذا تفعل هناك... لا تدخل القصر... الوضع خطير وغامض ولا يمكنني ان أقول لك ماذا سيحصل داخل القصر رغم اتخاذي اجراءات احتياطية... أنا أنصحك بمغادرة المكان حالا ولا تغامر بالدخول... غير أن الغنوشي أجابني بلهجة حادة وبشيء من الارتباك في الآن نفسه، سأدخل القصر مهما كانت التكاليف» وكان محمد الغنوشي قد اعترف في أحد تصريحاته الصحفية أنه تلقى دعوة في مرتين متتاليتين مساء ذلك اليوم من أحد أعوان الأمن الرئاسي للحضور حالا الى قصر قرطاج والا فإن أحداثا دموية ستحصل، وهي الدعوة نفسها التي تلقّاها السيد فؤاد المبزع (رئيس مجلس النواب آنذاك ورئيس الجمهورية المؤقت حاليا) وعبد الله القلال (رئيس مجلس المستشارين آنذاك) والجنرال رشيد عمار قائد أركان جيش البرّ. وحسب رضا ڤريرة فإن، الغنوشي والمبزع والقلال لبّوا الدعوة وتوجهوا الى قصر قرطاج أما الجنرال عمّار فلم يتحوّل الى هناك. ماذا كان سيحصل؟ قال السيد رضا ڤريرة إن دعوة رموز الدولة (الوزير الاول ورئيس مجلسي النواب والمستشارين وقائد أركان جيش البرّ) من قبل أعوان في الأمن الرئاسي أمر يدعو فعلا للاستغراب وهذا دون الحديث عما قيل عن الطريقة التي عومل بها الغنوشي والمبزّع والقلاّل هناك في قصر قرطاج خصوصا أنه لم يكن موجود هناك اي مسؤول مدني آخر.. فماذا كان ينتظر هذا الثالوث (إضافة الى الجنرال عمار) هناك في قصر قرطاج؟ وأي مخطط كان سينفّذ؟ وهل ساهمت عملية إيقاف السرياطي قبل ذلك بساعة في إحباط مخطط ما؟ أم أن أمرا آخر يتجاوز السرياطي وأعوانه كان سيحصل؟ هذه الأسئلة وغيرها رفض محدّثنا رضا ڤريرة الخوض فيها لأنها من مشمولات القضاء وأكيد ان التحقيقات الجارية ستكشف عنها.. غير انه عاد بناء الى اتصالاته بالوزير الاول الغنوشي ليقول «بعد أن أصرّ الغنوشي على الدخول الى قصر قرطاج رغم تحذيراتي، طلبت منه ان نبقى على اتصال بالهاتف على الاقل مرة كل بضعة دقائق... ورجوته عدم غلق هاتفه وأن يردّ على كل مكالماتي وإلا فإن المدرّعات العسكرية ستدخل القصر!... وبالفعل بقينا على اتصال متواصل بالهاتف الى حين تسجيل الكلمة التي ألقاها عبر التلفزة رفقة المبزع والقلال في حدود السابعة مساء والتي أعلن فيها توليه الحكم طبقا للفصل 56 من الدستور، اي على اساس ان الرئيس السابق غادر البلاد وقتيا وسيعود... وكان يردّ على مكالماتي بشيء من الارتباك أحيانا وبهدوء أحيانا أخرى... وبعد ذلك اتصلت به ليعلمني انهم غادروا قصر قرطاج بسلام بعد بثّ الكلمة عبر التلفزة والإذاعة..». وجوابنا عن سؤال حول حقيقة ما قيل من أن الغنوشي ألقى تلك الكلمة تحت التهديد بالسلاح من طرف ما، أجاب رضا ڤريرة انه لا علم له بذلك.. اجتماع حتى فجر 15 جانفي بعد مغادرة الغنوشي والمبزع والقلال قصر قرطاج ، تم الاتفاق على عقد اجتماع عاجل وطارئ بمقر وزارة الداخلية،يقول محدثنا وزير الدفاع السابق مضيفا: «أحضرت معي في ذلك الاجتماع الأعضاء الخمسة للمجلس الأعلى للجيوش... وحضر الاجتماع الوزير الأول محمد الغنوشي ووزير الداخلية احمد فريعة مرفوقا بالمسؤولين السامين في وزارته... وقد تواصل ذلك الاجتماع الى حدود الثالثة من فجر 15 جانفي، استعرضنا فيه مطوّلا كل ما جدّ من تطوّرات، حسب ما عاينها كل من موقعه... بعد ذلك اتفقنا على أن يتم تفعيل الفصل 57 من الدستور، وقد تأكدنا آنذاك من أن مغادرة الرئيس المخلوع البلاد كانت نهائية.. وهو ما تم بالفعل في اليوم الموالي حيث تولى السيد فؤاد المبزّع الحكم.. الجيش والحكم.. سألت محدثي، وزير الدفاع السابق، ما مدى صحة كل ما قيل طوال الشهرين الماضيين، وحتى قبل 14 جانفي، عن مؤشرات لإمكانية تولي الجيش الحكم، فأجاب «سبق أن قلت إنه عندما توافد على الثكنات العسكرية عدد من أعوان الأمن لحفظ أسلحتهم من إمكانية اتلافها وضياعها أثناء احداث يومي 13 و14 جانفي، شعرت المؤسسة العسكرية آنذاك بحرج كبير، ولم نقبل في البداية بذلك الا بعد استشارة الرئيس السابق في الغرض.. توجسنا آنذاك صلب وزارة الدفاع من إمكانية تدبير مؤامرة لنا لاتهامنا فيما بعد بافتكاك السلاح من الأمن وما قد ينجرّ عنه من اتهامات لنا بالتحضير لانقلاب عسكري... خفنا من مجرّد اتهامات فما بالك بالتفكير أصلا في أمر كهذا.. فقد قلت بالحرف الواحد للرئيس المخلوع عندما اتصلت به هاتفيا صباح 14 جانفي، قلت له، كل جهاز يحتفظ بسلاحه (أي الأمن والجيش) ولا نريد أن نكون الطرف الوحيد في البلاد الذي بحوزته سلاح أثناء تلك الأحداث... والى حدود مساء 14 جانفي لم يتجاوز الجهاز العسكري حدود تحرّكه الترابي في المسلك الرئاسي بالضاحية الشمالية.. فقد كانت حدودنا الترابية هي ثكنة العوينة أما ما تجاوز ذلك (في اتجاه المسلك الرئاسي بقرطاج) فإنه كان من مشمولات الجهاز الأمني، ولم نتدخل في تلك المنطقة الا بعد 14 جانفي لغاية معاضدة المجهود الأمني في حفظ أمن المواطن وحماية الشخصيات والممتلكات العمومية وحتى ما وقع تداوله حول الجنرال عمّار من أنه تحوّل بنفسه لقصر قرطاج مساء 14 جانفي وأشرف على «طرد» بن علي لا أساس له من الصحة». ويؤكد رضا ڤريرة أن كل هذا هو لإبراز مدى انضباط الجهاز العسكري في تونس و«نظافة» تفكيره والتزامه بضوابط النظام الجمهوري وهو ما تربّت عليه القوات العسكرية التونسية منذ الاستقلال والى اليوم... فالحكم في تونس لا يمكن ان يكون إلا للمدنيين وليس للعسكر ولا للسلاح مثلما قد نراه في دول أخرى حسب المتحدث، مستشهدا في هذا المجال بتحركات الجيش بدءا بدعوته للانتشار والمساهمة في حفظ الأمن يوم 6 جانفي ووصولا الى اليوم.. فضلا عن التعاون والتنسيق الكبيرين مع جهازي الداخلية (الشرطة والحرس) اللذين قدّما بدورهما تضحيات كبرى وعملا شاقا جبّارا أيام الثورة وبعدها والى حد هذه الأيام، وبرهنا على وطنيتهما العالية، ويحق لكل تونسي اليوم الاعتزاز بهذا التكامل والتجانس بين المؤسسة العسكرية والمؤسسة الأمنية والتي نوّهت بها شهادات دولية رغم محاولات البعض بث التشكيك والبلبلة بينهما والتي لم تنطل على أحد وفق ما أكده محدّثنا.. وحتى الرئيس المخلوع نفسه، فقد كانت له ثقة كبرى في اخلاص الجيش الوطني بدليل أنه أمر بتعيين الجنرال عمار عشية 14 جانفي منسقا أمنيا بين الداخلية والدفاع. إقالة... وحقائق في ختام حديثه معنا أشار رضا ڤريرة الى ملابسات مغادرته الحكومة المؤقتة الاولى عندما كان وزيرا للدفاع.. يقول «وقعت إقالتي ولم أطالب بالاستقالة تمنيت رغم الضغوطات التي كنت أعيشها بعد 14 جانفي بوصفي أحد وزراء نظام بن علي لو واصلت العمل على رأس هذه الوزارة حتى أواصل العمل الذي بدأته منذ مساء 14 جانفي وأتحمل بذلك المسؤولية في الكشف عن عدة حقائق وملابسات لا تزال تحيّرني وتحيّر كل التونسيين الى اليوم... حقائق حول القناصة وحول الانفلات الامني وحول ما كان مخططا من قبل بعض الأطراف بعد هروب بن علي. ولكن تمت اقالتي ولم أتمكن الى اليوم من كشف هذه الحقائق... فقط مجرد تخمينات وفرضيات تراودني ككل التونسيين ولكن لا يمكن الجزم بصحّتها في انتظار ان تكشف العدالة عن كل الحقائق.