لاشكّ أنّ الشّباب التونسي قد اكتشف مع السيد الباجي قائد السبسي الوزير الأول في الحكومة المؤقتة المدرسة التونسيّة في الخطابة التي أسّسها الرئيس الحبيب بورقيبة . ولاشك أن هؤلاء الشباب قد انتبهوا الى ما اتّسمت به الفترة السّابقة ، فترة الرّئيس المخلوع، من بؤس في التعاطي مع الخطاب السيّاسي، ومن فقر في أساليب هذا الخطاب وطرائق أدائه. والواقع أن العهد السّابق قد شهد تدهور الخطاب السياسيّ، وربّما موته. فالرئيس المخلوع كان يكتفي بقراءة نص جاهز سلفا، نصّ لا يصوغه ولا يصنعه، أي نصّ لا يمثّله. وهذا النصّ يتسّم بأسلوبه البارد ويخلو من كل إيقاع ذاتي يمدّه بأسباب الحياة، وهو في ذلك يختلف عن الخطاب الذي أسّسته النخبة السياسية التونسيّة والذي يتميّز «بحيويّة» الارتجال الجامع بين الذّاتي والجماعيّ جمع تشابك وانسجام وأهمّ من يمثل هذا الخطاب، كما أسلفنا، هو الزّعيم الحبيب بورقيبة. فكلّ من عاصر هذا الرّجل يتذكّر كيف كان يتحاشى، في معظم الأحيان، الخطب المدّونة، ويجنح الى الخطاب الحيّ، فلا أوراق أمامه، ولا رؤوس أقلام. كان يؤثر أن يخاطب السّامع دون وسائط، يريد أن يحدّق في عينيه، أن يتأمّل ملامحه، أن يعقد حوارا معه، أن يقرأ أثر خطابه على صفحة وجهه... أكثر من ذلك، كان يريد بتحاشيه استخدام الأوراق، أن يترك المجال ليديه أن تتحرّكا، ولسمات وجهه أن تتكلم، ولعينيه أن تفصحا عمّا يريد أن يقول... فمن شأن الخطاب المدوّن أن يعطّل كل هذه الأعضاء، أن يحدّ من نشاطها، بل أن يشلّ حركتها...ويحكم عليها بالموت. لهذا آثر بورقيبة الارتجال، الارتجال بوصفه تحريرا لكلّ الجوارح، حتّى تسهم في إنشاء الخطاب وفي صناعته وفي التأثير في السّامع... وللصّوت، في عمليّة الارتجال شأن وأيّ شأن، فنبرته وجرسه وإيقاعه وحركات ارتفاعه وانخفاضه تسهم هي الأخرى في صياغة المعنى وفي تأسيسه. هكذا يتحّول إلقاء الخطبة الى طقس احتفالي كبير ينهض فيه الصّوت والجسد والحركة بوظائف كبرى، وتتميّز هذه المدرسة الخطابيّة بخصائص أسلوبية ثلاث: ميلها الى الإطناب: والإطناب كما لاحظ أرسطو من شأنه أن يوحي دوما بسموّ الخطبة كما يوحي بقدرة الخطيب، وهو الى ذلك يؤكد أن الأمر الذي تدور عليه الخطبة جليل يستحقّ التبسّط في الكلام والتوسّع في التحليل فالإطناب ليس «نفلا زائدا» وإنّما هو المخرج الذي لا ينال بغيره... جنوحها الى استدعاء نصوص أخرى تدعم بها نصّها: من خصائص هذه المدرسة أنّها تستدعي جملة من النصوص تسترفدها من مظانها وتجعلها جزءا من نصّها ونعني بذلك النصوص الدينيّة والأمثال والحكم والقصص... هذه العناصر تعدّ من «محسّنات الخطبة» ومن الطرق التي يتوسّل بها الخطيب «لإلقاء التصديق في النفوس» خاصّة إذا تلاها دون استعانة بأوراق مكتوبة ... فهذه النّصوص تقوم مقام نصّ الخطيب تتكلّم بدلا عنه، تجادل وتقنع... استخدامها الأسلوب الدوريّ. وهو الأسلوب الذي يجعل الخطبة تعود على نفسها (كالأدوار في القصائد) تؤكد الفكرة الواحدة بطرق لكنّ الخطبة البورقيبيّة وان كانت غايتها البعيدة هي «إيقاع التصديق في القلوب» و «إنتاج الاعتقاد في النفوس» فإنها سلكت لغاية الاقتناع طريق الامتاع، إمتاع، السّامع بضروب من السرد والحكي تحوّل الخطبة الى ضرب من «السمر» الممتع. لاشك أنّ السيّد الباجي قائد السبسي قد أعاد الى هذا الخطاب حضوره، وان كان في أسلوب مختلف، هو أسلوب الوزير الأول... قاطعا بذلك مع خطاب العهد البائد الذي يفتقد لكلّ خصائص الخطاب.