ألا يفسّر هذا الرداءة التي تطبق على نوعية البحوث؟ إن الظروف المادية القاسية لأغلب الطلاب لها تأثير كبير على أعمالهم. فكيف نطالب ببحوث لها قيمة في مثل هذه الظروف؟ بل إن بقاء الطالب على قيد الحياة هي بالفعل من المعجزات. فكيف نفسّر قدرة طالب لا دخل له أن يتمكن من اكتراء محل للسكنى رفقة زملائه؟ بل إن الطلاب قد أبدعوا أساليب مجددة في تشكيل مجموعات الكراء. فالطالب يحبذ الانضمام إلى مجموعة من العاملين أو موظفين أو من أصحاب الأعمال الحرة وبذلك يتمكن من «الترسكية» كلما دعت الحاجة إلى ذلك. فعلاقة الطالب بعائلته هي المصدر الوحيد للمال، فعند اهتزاز هذه العلاقة تغيب الدينارات. وعبقرية الطالب تكمن في نسج العلاقات مع الموظفين الذين يقاسمهم المسكن. فالطالب الناجح هو ذلك القادر على ربح هذه العلاقات، وهو ما يفرض امتلاك مواهب كثيرة كالقدرة الفائقة على طهو الطعام وتنظيف المسكن وتملّك مواهب شد الأنظار والقدرة على «التنكيت» على ذلك لحجب المعضلة المادية. أما في صورة محدودية الطالب في خلق هذه العلاقات، فهذه ليست كارثة بالمعنى الكلي فالباحث الشاب في هذه الحالة يتوسّل فنّا آخر لا يقل عبقرية عن الفن الأول، يتأسس على أسلوب التسويف لإقناع الملاك للتحلي بالصبر، فالمال قادم لا محالة، فالأبهة التي يظهر بها الطالب تساعده على ذلك فالملابس الفاخرة والأحذية التي تخطف الأنظار توحي للملاك المسكين أن عدم تحصله على معين الكراء لا يعدو أن يكون إلا أزمة عابرة ولا تشكل أي خطر يذكر. فأسواق الملابس المستعملة توفر خدمة لا تقدر بثمن. وفي واقع الأمر لا يجب المغالاة فكثير من الطلاب لا يقدرون على شراء أي شيء لإفلاسهم التام فالدينارات القليلة لا تكفي للكفتاجي، حتى ان البعض ابتدع أسلوب الوجبة الواحدة بتأجيل الأكل إلى زمن يقترب من زمن العشاء. وبذلك يربح صاحبنا ثمن وجبة. ويتبقى الفئة من قليلي الحيلة ممن لا يملكون هذه المواهب فهؤلاء عليهم تجنب الملاك خاصة في مواعيد الخلاص وتتم هذه العملية بالعودة في وقت متأخر من الليل في الوقت الذي يكون الملاك يغط في نوم عميق والاستيقاظ باكرا والانطلاق الفوري بعيدا عن المنزل، ولكن قد لا ينجح هذا الأسلوب إذا كان الملاك من السهارة أو ممن له علاقات ممتازة بأولاد الحومة المولعين بتقديم الخدمات لابن حومتهم، فليس أمام الطالب في هذه الحالة سوى ترصد الوقت المناسب للفرار بأدباشه فإما العودة «للبلاد» أو الترسكية عند أحد الزملاء وبالطبع دون التصريح بالسبب الفعلي لفشل الكرية. ألا تفسّر هذه الظروف رداءة الأعمال الجامعية؟ وفي واقع الأمر ثمة موضوع على غاية من الأهمية، فوحدات ومخابر البحث تتمتع بميزانيات هامة ولكنها لا تساهم إلا بشكل جزئي في توفير بعض عقود العمل لفائدة بعض الطلاب، فالطالب سعيد الحظ الذي تحصّل على هذا العقد لا يتمتع بأمواله إلا 6 أشهر عند أغلب الأساتذة. ولكن والحق يقال إن بعض الأساتدة لا يترددون في منح هذه العقود وتجديدها بشكل مقبول. وهو ما يساعد الطالب على التفرغ لبحثه وذلك ينعكس إيجابيا على العمل. وقد يتطلب الحصول على مثل هذه العقود من بعض الطلاب إلى بذل مجهودات كبيرة، فإما الوشاية بزملائه وتقديم التقارير لوليّ نعمته وطبعا جمع الأخبار وكل ما يدور داخل الكلية وخارجها، بل يصل الأمر ببعض الطلاب إلى رقن نصوص أساتذتهم أولياء نعمهم. فمن المضحكات المبكيات أن هنالك رئيس وحدة بحث مشهور برفع شعارات الكفاءة في البحث بل إنه صاحب مشروع تقدمي فيما يخص علاقة الأستاذ بطالبه، يعمد إلى تنظيم ملتقيات يجمع الناس على فشلها وقلة نفعها على أن يمنح عقودا لفائدة طلبته بل يؤثر الحفاظ على ميزانية الوحدة على أن يستفيد منها الطلاب! أما أجهزة وحدة البحث فهي على ذمة الطلبة طبعا على أن يلتزم كل طالب بأن لا يطبع أي شيء، ذلك ان الطالب عليه أن يجد بنفسه سبيلا لطبع نصوصه بعيدا على وحدة البحث، نعم هذا هو الفهم الصحيح والوجه المعقول لاستخدام التجهيزات. ولكن إذا تعلق الأمر بزملائه بل حلفائه فإن الطابعة والطلبة رهن إشارته. نعم إنه حارس قلعة البحث العلمي. فهو فارس مغوار في لجان المناقشات، وكم من مترشح ذبح بسيفه البتّار. ولكن ذلك لا ينسينا جهود بعض الأساتذة في إفادة طلابهم وهي من الأمور التي تحسب لهم، وتتمثل خاصة في فسح المجال لطلابهم ودعمهم للحصول على منحة التداول التي تمكن الطلاب من الاطلاع على مصادر ومراجع متواجدة في باريس، كما أن التجربة في حد ذاتها مفيدة للطالب على المستوى النفسي والمادي. أما فارسنا المغوار، نقصد حارس قلعة البحث العلمي فإنه لا يرى في هذه المنحة أي فائدة، وكأن الأمر يتعلق بأمواله الخاصة التي لا مجال لصرفها إلا في وجهها الحقيقي. والحق يقال إن وزارة التعليم العالي قد سمحت بهذه المنحة لفائدة الطلبة طيلة مشوارهم البحثي، أي ثلاث مرات متتالية أي مدة التسجيل في الدكتوراه. وإنها بادرة نثمنها وتستحق كل التقدير، وفي مقابل ذلك لا نجد أي تفسير لماذا يمنع فارسنا المغوار طلبته من الحصول على هذه المنحة رغم فوائدها على الطالب والبحث عموما. نعم قد يكون هذا السلوك هو الفهم الحقيقي والتطبيق الفعلي للتقدمية، أليس هذا انفتاح على الجامعات الأوروبية؟ فما فائدة إتعاب الطالب بمشقة السفر إلى خارج البلاد؟ أجل فهو الأعلم بمصلحة «أولاد الناس». أما مشروع الإشراف المشترك لرسالة الدكتوراه بين الجامعات التونسية والفرنسية فهي من الأمور التي على الطالب أن يتجنبها. كيف لا وقد أثبتت التجربة أن الطالب التونسي غير قادر على فهم هذا المشروع. نعم إنها حماية الطالب التونسي غير قادر على فهم هذا المشروع. نعم إنها حماية الطالب من نفسه الأمارة بالسوء. إذ قد يتطلع إلى تحسين مستواه العلمي إذا ما احتك بأترابه من الفرنسيين وبذلك تصعب السيطرة عليه بل قد يصل به الأمر إلى أن يتجاوز أستاذه معرفة واطلاعا. أتوجد مصيبة أكبر من هذه يمكن أن تصيب فارسنا المغوار؟ وسنواصل في المقال القادم الحديث عن تكوين الطالب التونسي في مستوى الماجستير.