٭ بقلم: الأستاذ عيادي بوسرويل (المحامي بتونس) ما إن وضعت الثورة أوزارها أو تكاد حتى تعالت أصوات البعض مطالبة بتعويض ما لحق أصحابها من أضرار ينسبونها أو ينسبون أسبابها إلى النظام السابق أو رموزه أو غيرهم ممن كانت تربطهم به علاقات وطيدة، وهذا الفعل ليس غريبا على مر التاريخ، فبعد كل ثورة أو تغيير يظهر من الخفاء من ينسب لنفسه دور الضحية ويسرد قصصا أو حكايات فيها الصحيح، وهو نزر قليل، وفيها الأكاذيب والسعي إلى الاستفادة من الوضع الجديد ولو على حساب الأخلاق ودماء الناس الشرفاء الذين ذهبوا بالفعل ضحية لأحداث تلك التغيرات التي تكون تاريخية في بعض الأحيان. انهالت إذن على الدولة المطالبات بالتعويض من أناس يزعمون أنهم كانوا ضحية للنظام السابق لكننا لم نسمع أبدا عن مطالباتهم تلك على مر السنوات الماضية، فأين كانوا يا ترى؟ الجواب هو أن أغلب هؤلاء هم من ذلك النوع من البشر الذي يسعى دائما إلى استغلال الفرص مهما كانت، فهم لم يلحق بهم أي ضرر كما يزعمون لا من النظام السابق وأعوانه ولا من غيرهم. أما البعض الآخر الذين قد يكونون بالفعل لحقهم شيئا من الضرر أو الظلم فإن سكوتهم عنه طيلة الفترة السابقة يجعل من مطالبهم الآن في التعويض فاقدة للشرعية لسببين على الأقل: السبب الأول قانوني، ذلك أن جل التشاريع تعتبر تعرض الشخص للاضرار به وعلمه بمن ألحق به الضرر دون القيام بالمطالبة يعد رضاء منه وتنازلا عن حقه في التعويض لأن الرغبة في تعويض الضرر لا بدّ من أن تتجلى صريحة بأن يقوم صاحب الحق بطلبه والسعي إلى ذلك بشتى الوسائل، وقد نص القانون المدني مثلا على سقوط حق المطالبة في التعويض بمضي ثلاث أعوام من تاريخ حصول الضرر وعلم المتضرر بالمتسبب فيه (الفصل 115 مدني) فلا يعقل حينئذ أن يزعم هؤلاء أن حصول الضرر أو العلم بالمتسبب فيه قد حصل لهم اليوم وفقط بعد ثورة 14 جانفي ولا يمكن لهؤلاء أن يحتجوا بأنه لم يكن بإمكانهم المطالبة أو تتبع من أضر بهم لخوف منهم أو جبن اعترى قلوبهم لأن ذلك يؤدي بنا إلى الحديث عن السبب الثاني وهو ذو طابع سوسيولوجي. فهؤلاء الذين إذا صح زعمهم كانوا قد تعرضوا للاعتداء على حقوقهم ومع ذلك التزموا الصمت ولم يحركوا ساكنا يكونون قد ساهموا في سطوة أولئك المجرمين وتعديهم على مزيد من الضحايا، إذ أن الموقف السلبي للضحية لا يزيد الجلاد إلا تسلطا وعربدة فيتفشى بذلك ظلمه ليشمل ضحايا جددا. هؤلاء بسكوتهم يكونون قد انخرطوا في المنظومة وتعايشوا معها وقبلوا أن يكونوا جزءا منها ولا يحق لهم تبعا لذلك أن يتنصلوا اليوم من مواقفهم السابقة. وعلاوة على هؤلاء، ظهر بعض المتضررين من الأحداث التي صاحبت الثورة وهم من أثرياء القوم اللذين حرقت أو نهبت مصانعهم أو محلاتهم وهؤلاء سارعت حكومة السيد الغنوشي إلى التفكير في مساعدتهم على الخروج من محنتهم بحسب رأي تلك الحكومة وذلك بواسطة أموال الشعب لكي يزداد الأثرياء ثراء ويزداد الفقراء فقرا. إن تعويض هؤلاء أيضا عما خسروه ليس من مشمولات الدولة لأن الدولة لم ترتكب خطأ تحاسب عليه وحتى عندما أقرت قوانين بعض الدول المتقدمة إحداث تعويضات لمتضرري الحروب أو الكوارث على سبيل التضامن الاجتماعي، فإن تلك التعويضات كانت خاصة بفئة من المجتمع تكون عادة من الفقراء أو الفئات الضعيفة وينحصر التعويض في الأضرار البدنية التي قد تلحق بالشخص ولا تشمل أبدا أو تكاد، الأضرار التي تلحق بالممتلكات وهو حل وموقف منطقي وقانوني.. لماذا؟ لأن خطر الحريق أو السرقة أو النهب هو خطر وارد ومتوقع بالنسبة للمحترف مهما اختلفت أسباب وقوعه وعلى هذا الأخير أن يتحمل ذلك الخطر الممكن لأن من يجني الأرباح يتحمل الخسائر أيضا أو بعبارة قانونية من له النما فعليه التوا. فمن يباشر مهنة أو تجارة أو صناعة عليه أن يقرأ في الحسبان حصول الخسارة مثلما يتوقع من نشاطه الحصول على الأرباح. ومن جهة أخرى فإن المحترف الذي يستغل محلا أو مصنعا أو نحوه من المفروض أن يكون قد اكتتب عقد تأمين للأخطار التي قد يتعرض إليها ذلك المحل وإذا لم يفعل فإنه يخل بواجب حسن التصرف ويرتكب خطأ لا يتحمل نتائجه سواه ولا يمكن بأي حال من الأحوال تحميل الدولة تعويض ذلك الضرر. إن تفاقم ظاهرة طلب التعويض والتجاء الكل إلى الدولة أصبح يشكل محاولة للإثراء على حساب الثورة كما أنه يشكل أيضا إرهاقا كبيرا لميزانية الدولة ولو وقعت الاستجابة إلى تلك المطالب وذلك على حساب أموال الشعب وتطلعاته لذلك فإننا نهيب بجهاز المكلف العام بنزاعات الدولة بأن يدافع بكل صرامة عن ميزانية دولتنا من أطماع هؤلاء فما عسى أن يرفع من قضايا مطالبة كلها بالتعويض، كما أهيب بأجهزتنا القضائية عدلية أو إدارية بأن لا تستجيب لهاته الأطماع التي تكون فاقدة للسند القانوني والواقعي في أغلبها.