٭ بقلم: محمد القمودي (القاضي بالمحكمة الإبتدائية بمدنين) المبحث الثاني: استقلالية القضاء مطلب منشود إذا كان العدل حقا مقدسا لكل إنسان فإن تأمينه هو مسؤولية الدولة وأسمى وظائفها،أما تحقيقه فهوجوهر رسالة القضاء، فالعدل لا يتحقق من تلقاء نفسه وليس للشخص أن يقتضيه لنفسه بل حمل القضاء منذ فجر التاريخ أمانة تحقيق العدالة برفع المظالم والإصلاح بين الناس ونصرة المظلوم وحماية الحقوق والحريات وصون الأموال حتى يشعر المواطن أنّ العدل قريب منه فينتابه الإحساس بالراحة والأمان على وجوده وحريته وعرضه وماله فينطلق للقيام بدوره في بناء مجتمعه معتزا بالانتماء إلى وطنه. واعلاءا لكلمة الحق والعدل يتجنّد القضاء نظاما ورجالا تقديرا لسموالرسالة ومدى تأثيرها على الفرد والمجتمع في توفير الأمن والاستقرار حاضرا ومستقبلا، هكذا تأكدت حتمية استقلالية القضاء حتى تسود الطمأنينة في نفوس المواطنين وتسود الثقة لدى المتقاضي. ويقصد باستقلالية القضاء استقلال السلطة القضائية واستقلال القضاة،أي من ناحية أولى يجب أن يكون القضاء سلطة من سلطات الدولة الثلاث وليس مجرد وظيفة في الدولة وهوما يحتم اعتبار القضاء سلطة مستقلة لان إنكار وصف السلطة على القضاء إهدار لاستقلاليته،كما أن استخدام مصطلح السلك القضائي أوالجهاز القضائي وإن كان بريئا في ظاهره إلا انه يخفي وراءه اتجاها يجرّد القضاء من خصائصه وهوكونه سلطة تقف على قدم المساواة مع السلطتين التشريعية والتنفيذية. ومن ناحية ثانية يجب أن يكون القضاة كأفراد متحررين من أي تدخل أورقابة أوإشراف غير متأثرين في قضائهم إلا لنص القانون ينطقون به دون خوف وترهيب ودون إغراء أوترغيب ،وفي الوقت ذاته لا يكون ثمة تدخل في شؤونهم الوظيفية لغير السلطة التي يباشرون في ظلها رسالتهم أي السلطة القضائية . وعليه فان استقلالية السلطة القضائية واستقلالية القضاة أمران مرتبطان لا يغني احدهما عن الآخر ولا ينهض بديلا عنه، يبقى أن نتوقف عند مسألة مبررات وجدوى استقلالية القضاء وكذلك ضمانات وسبل استقلاليته. عديدة هي مبررات استقلالية القضاء ولكنها تتمحور في مجملها حول ثلاث نقاط: الأولى أن المجتمعات المعاصرة ترتكز على مبدإ سيادة القانون باعتبار أن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين الأفراد تنظمها قواعد قانونية يحرسها القضاء ويسهر على احترامها وتطبيقها وذلك عند حسمه للنزاعات وفصله للخصومات . فالمواطن لا يرى اثر القانون ويعايشه إلا من خلال أحكام القضاء عند فصله للنزاعات وبالتالي فإن فاعلية القانون في الحفاظ على الأمن والنظام العامين تفرض وجود قضاء محايد ومستقل تتأكد به سيادة القانون. ثاني المبررات أن من حق كل مواطن أن يلجأ إلى قاض عادل ومحايد وهوما يفرض حتما أن يكون القاضي مستقلا لا يرهب أحدا لنفوذ ولا يرجونعمة احد لثراء يسخر عمله لنصرة الحق وخدمة العدالة. ثالث المبررات أن حماية حقوق وحريات الأفراد تستوجب أداة ردع وزجر فعّالة تتمثل في الرقابة القضائية والتي لا يمكن أن تكون كذلك إلا في ظل قضاء محايد ومستقل يمكنه أن يعلي كلمة الحق والحرية في مواجهة السلطة. وعليه فإن القضاء المستقل هوأداة تحقيق العدالة في المجتمع وتحقيق سيادة القانون وعلوكلمته وهوالضامن لحقوق المواطنين وحامي حرياتهم. إن مجرد التنصيص صلب الدستور على استقلالية القضاة أوحتى القضاء لا يكفي في حد ذاته لتحقيق تلك الاستقلالية بل يجب أن تتوفر ضمانات جدية تكفل للقضاة وللسلطة القضائية الإستقلال الحقيقي وهي ضمانات لا يقصد منها حماية شخص القاضي ولا تعد تقديرا أوامتيازا له بل هي عناصر ضرورية ولازمة لصالح النظام القضائي تدعم كيانه وتؤكد أنه سلطة ثالثة داخل الدولة. عديدة هي ضمانات استقلالية القضاء لكن اغلب الأنظمة المعاصرة استقرت على تكريس ثلاث ضمانات أساسية: أولى الضمانات تتعلق باختيار القضاة ذلك أن ضمان تحقيق العدالة يستوجب حسن اختيار من يتولى القضاء بأن يكون القضاة من خيرة الأشخاص علما ومعرفة وأكثرهم تأهيلا واستعدادا لحمل أمانة العدل. ولئن اختلفت الأنظمة في تحديد أسلوب الاختيار فإنه في نظامنا القانوني لابد أن يتم اختيار القضاة تحت إشراف مجلس أعلى للقضاء حر ومنتخب ومستقل حتى لا يدخل رحاب العدالة من هم غير قادرين على ثقل الأمانة وتبعة المسؤولية . إن استقلال القاضي لا يكفله فقط أسلوب اختياره بل يجب أن تتوفر له الأدوات المادية والفنية التي تيسر عمله حتى لا يخضع لأي إشراف أووصاية ، هذا إضافة إلى ضرورة وضع قواعد موضوعية تخص نقلة القضاة وترقيتهم وتأديبهم بعيدا عن السلطتين التشريعية والتنفيذية . ثاني الضمانات هومبدأ عدم قابلية القضاة للعزل والذي للأسف يطرح جدلا في الأنظمة البالية في حين انه أضحى من الثوابت في الدول المتقدمة لكونه نتيجة بديهية لمبدإ الفصل بين السلط ، بل إن بعض رجال الفقه يعتبر تكريسه رمزا لوجود سلطة قضائية مستقلة وتغييبه دليلا لعدم استقلاليتها. إن مسؤولية تحقيق العدل في المجتمع موكولة للقضاء وهومكلف أيضا بحماية حقوق المواطنين وصيانة حرياتهم وعليه فإن رسالة القضاء تفترض بداهة استقلالية القاضي استقلالا وظيفيا وشخصيا. ويقصد بالاستقلالية الوظيفية أن لا يخضع القاضي إلى أي سلطة رئاسية تملي عليه أحكامه وأن لا تتم مساءلته أمامها عن قراراته وإنما هو خاضع فقط إلى سلطة القانون يطبقه حسبما يمليه عليه وجدانه واجتهاده. ويقصد بالاستقلالية الشخصية أن يتحرر القاضي من الخوف من التأديب والإعفاء بتمكينه من ضمانات دستورية وقانونية أهمها عدم قابليته للعزل أي عدم جواز إبعاده عن منصبه القضائي لان عزل القضاة أوإيقافهم عن عملهم يعد سلاحا خطيرا يهدد استقلاليتهم وينعكس سلبا على حسن سير العدالة . لقد اجمع الفقه أن عدم قابلية القاضي للعزل من أهم ضمانات استقلال السلطة القضائية ولكنها ليست امتيازا للقاضي بل هي في المقام الأول حماية للمتقاضي وضمانا لحسن سير القضاء. وهذه الضمانة لا تتعارض مع إمكانية مساءلة القاضي عن أخطائه بل هي مجرد تأمين له ضد أي خطر قد يهدده أوضغط قد يمارس عليه مع الإبقاء على مبدإ مساءلته ومحاسبته أمام مجلس تأديب مستقل داخل السلطة القضائية. ثالث الضمانات هوتخويل السلطة القضائية تنظيم الشؤون الإدارية والمالية للقضاة والإشراف على تنفيذها حتى يتمكن القاضي من أداء رسالته دون مشاركة أوتدخل من أي سلطة أخرى وذلك بتعهيد مجلس أوهيئة قضائية عليا تتركب من كبار رجال القضاء تكون لها سلطة مراقبة الشؤون المالية والإدارية تنظيما وتنفيذا ورقابة ،حتى يتمكن القاضي من مواجهة كافة الضغوط والإغراءات ويقول كلمة الحق دون أن تضعفه رغبة أوتثنيه رهبة في أداء واجبه. وأخيرا وليس آخر فان القاعدة الراسخة في أي مجتمع ديمقراطي هي الفصل بين السلط حتى لا «تتغوّل» سلطة على أخرى ويبقى القضاء موطن العدل بمضمونه وفحواه، وتظلّ المحاكم ملاذ كل مواطن من كل ظلم أوحيف، وأختم بقول الله تعالى في الآية 58 من سورة النساء « إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعضكم به إن الله كان سميعا بصيرا».