٭ بقلم: محمد القمودي (القاضي بالمحكمة الإبتدائية بمدنين) ينص الفصل 65 من دستور الجمهورية الأولى على أن «القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون» أي أن القضاة كأفراد وأشخاص هم مستقلون، فهل فعلا هم مستقلون؟ وما هو حال القضاء خاصة بتعليق العمل بدستور 1959 وزواله؟ لم يبق في المشهد القضائي اليوم سوى القانون الأساسي للقضاة المؤرخ في14 جويلية 1967 والذي بدراسته يتضح بما لا يدع مجالا للشك أن القضاء التونسي غير مستقل لأن السلطتين التنفيذية والتشريعية لا تعترفان بوجود سلطة قضائية ولأن الأولى في الذكر تمسك بقبضة من حديد بالقضاة. حمدا لله وشكرا لشهداء الثورة وضحاياها ولكل فئات ومكونات الشعب التونسي حين ضموا صوتهم لكافة الحقوقيين الذين نادوا باستقلالية القضاء في واقع يؤكد اليوم أن عدم استقلاليته وتبعيته كانت منهجا مقصودا(مبحث أول) وأن استقلالية القضاء أصبحت اليوم مطلبا منشودا(مبحث ثان). المبحث الأول :عدم استقلالية القضاء منهج مقصود صدر القانون الأساسي للقضاة سنة 1967 وتم تنقيحه عشرة مرات آخرها سنة 2005 ورغم تعدد التنقيحات فان الثوابت لا تتغير وتظل في كل مرة دار لقمان على حالها. يتضمن القانون الأساسي للقضاة 61 فصلا تتعلق بحقوق القضاة وواجباتهم وطرق انتدابهم ومنحهم الأعداد والجرايات وسبل تأديبهم غير أن الملفت للنظر أن هذا القانون لا يستعمل مصطلح السلطة القضائية بل «السلك القضائي» (الفصول 12 و18 و25 و26 و28 و32) في تأكيد واضح أن السلطة التشريعية لا تعترف بوجود سلطة قضائية بل بمجرد «سلك» وهوتغييب مقصود يتأكد باقتران لفظ «السلطة» فقط بصلاحيات وزير العدل (فصل15 و51) والحال انه من المفترض إسباغ وصف السلطة على القضاء ليكون بذلك سلطة من سلطات الدولة الثلاث لها كيانها ومقوماتها وضماناتها تقف على قدم المساواة مع السلطتين الأخريين ولا يكون القضاء مجرد وظيفة من وظائف الدولة. وبالاطلاع على الباب الثاني من القانون الأساسي للقضاة المتعلق بحقوق القضاة وواجباتهم والمتضمن 12 فصلا يوجد فصل وحيد لحقوق القضاة أما بقية الفصول فأتت لضبط واجبات القضاة بلغة المنع والنهي وعبارات الزجر والإلزام (يحجر تحجيرا باتا، لا يمكن للقاضي ، ينقل القاضي، القضاة ملزمون،على القاضي).... إن لغة الترغيب والترهيب وعبارات الوعد والوعيد تجعل القاضي غير متحرر في أعماله يخشى العزل والعقاب خاصة بالنظر للصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية ولوزير العدل اللذين يتمتعان بعدة وسائل ضغط وتدخل صلب السلطة القضائية تتعدى التعيين والدعوة لتبلغ حد النقلة والتأديب. رئيس الجمهورية هورئيس السلطة التنفيذية ولكنه يترأس المجلس الأعلى للقضاء الذي هوأعلى سلطة قضائية تتركب من أعضاء محددين بالتعيين ضمن الفصل 6 ولا يقع انتخابهم وهوالجهاز المختص بتأديب القضاة، وينوب رئيس الجمهورية وزير العدل فقط. ويجتمع المجلس الأعلى للقضاة بناء على دعوة من رئيس الجمهورية أوبإذن من وزير العدل فقط ولا يمكن أن يجتمع بناء على طلب القضاة مهما كانت مشاغلهم ومهما بلغت التحديات المطروحة أمام السلطة القضائية. ومن صلاحيات رئيس الجمهورية كذلك تسمية القضاة وهومن يقرر وضعهم في حالة مباشرة أوإلحاق ووضعهم تحت السلاح وهومن يقبل استقالتهم أويرفضها. أما عن صلاحيات وزير العدل عضوالسلطة التنفيذية فهي عديدة فالفصل 15 منحه سلطة رئاسية على كافة أعضاء النيابة العمومية «قضاة النيابة العمومية خاضعون لإدارة ومراقبة رؤسائهم المباشرين ولسلطة وزير العدل». ومن صلاحياته أن ينقل خلال السنة القضائية أي قاضي «لمصلحة العمل» وهوما يتعارض مع مبدأ عدم نقلة القاضي إلا برضاه. كما انه لا يمكن للقاضي إلقاء دروس في نطاق اختصاصه(فصل (16) أو ممارسة أي وظيفة بدائرة محكمة أخرى (فصل 20) أو الإقامة بغير دائرة المحكمة التابع لها( فصل (21 أو حتى مغادرة التراب التونسي خلال عطلته (فصل 39) إلا بإذن وترخيص من وزير العدل . وصلاحيات وزير العدل عضوالحكومة لا تقتصر على الإذن والترخيص فقط بل أن الفصل 51 نص صراحة انه « بقطع النظر على أية عقوبة تأديبية فان لوزير العدل سلطة إنذار القضاة». وله كذلك عند اتصاله بشكاية أن يحجر على القاضي مباشرة وظائفه مع حرمانه من بعض الجراية أوكاملها (فصل 54). هذه قراءة سطحية وسريعة دون خوض في الأصل للقانون الأساسي للقضاة لمن يعتقد أن القضاء مستقل ولمن يعتقد وجود سلطة قضائية، سلطة ثالثة مستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، قانون لا بد أن يكون مصيره كمصير الدستور لا محالة. ويضاف لهذا القانون المكرس للتبعية وعدم الاستقلالية واقع يتسم بوجود نقص كبير في عدد القضاة مقارنة بعدد القضايا المنشورة بالمحاكم وهوما جعل مكاتب القضاة وجلسات المحاكم مكتظة بالملفات ،يضاف لذلك نقص كبير في إطار الكتبة والعمال والحجاب رغم الطلبات التي توجهها المحاكم لسلطة الإشراف تلفت نظرها لذلك النقص خدمة للمواطنين ،يضاف لهم غياب التخصص القضائي بنقلة القضاة بين الدوائر القضائية ونقلتهم من محكمة إلى أخرى، يضاف لهم أيضا تخمة من القوانين تصدرها السلطة التشريعية تلبية لرغبة رئيس الجمهورية في اغلبها «قوانين سياسية» لا تعبر عن مشاكل المجتمع وتطلعاته في ظل تغييب وعدم إشراك للقضاة والمحامين في لجان التشريع وتنقيح القوانين. ولا يخفى على أحد أن القضاء الذي حمل أمانة تحقيق العدل منذ فجر التاريخ وهوقديم قدم البشرية لم ولن يتنازل رغم الظروف والتحديات عند أداء مهامه لسبب وحيد هوأن القضاة هم ضمير أمتهم ورمز إرادتها وصدى وجدانها في إعلاء كلمة الحق والعدل، وعليه كان لزاما أن يتحقق للقضاء جهازا وأفرادا،نظاما ورجالا كل مقومات وضمانات استقلاله تقديرا لسمورسالته. وتجدر الإشارة أن طلب استقلالية القضاء لم يقتصر على مؤسسة القضاء فقط بما فيها من قضاة ومحامين وحقوقيين وعدول وغيرهم بل كان شعارا رفع خلال الثورة وطالب به الشعب ولا يزال مطالبا لكافة مكونات المجتمع التونسي من نقابيين وجامعيين وسياسيين حماية للمواطن في مواجهة السلطة العامة وتحقيقا للعدل.