من العادات السيئة والمسيئة لكرامة المواطن الفنان عادة اسناد بطاقة الاحتراف الفني لممتهني قطاعات الفنون الثقافية باستثناء الأدب والشعر. وهذه العادة ابتكرها على حد علمنا صالح المهدي لما كان لمدة عشرة أعوام (1958 1978) يقنن الى النظام روافده الموسيقية وينفذ خططه وحملاته السياسية استعانة بجماعة الموسيقى من مؤلفين وملحنين ومغنين. وكانت الحجة آنذاك تنظيم الميدان وحمايته من الدخلاء وخصوصا الحفاظ على بكارة الفنانين والفنانات محترفي الغناء والرقص عند تنقلهم الى الخارج والخوف على سمعة البلاد من التلوث. بطاقة الاحتراف هذه وقد امتدت في ما بعد الى المسرح والسينما جعلت المسؤولين في وزارة الثقافة منذ إحداثها الى الآن محل تساؤلات كثيرة لدى المشتغلين طالما تميز إسنادها بضبابية المعايير ولخبطة في الأوراق المهنية إذ لا فرق بين محترفي الموسيقى والبغاء من فاتحات القوارير في الكباريه أو الراقصات المشبوهات سوى لون البطاقة التي يحملونها، أما اللجان المانحة التي استقر كثيرون في عضويتها طيلة ثلاثين سنة حتى تهرأت كراسيهم فكانت تصول وتجول وتقسم الأرزاق كما تشاء وكأنها أوتيت علم الأولين والآخرين. وقد صدرت شكاوى عدة في خصوص رشاوى وإكراميات مالية وعينية كان« يتمتع» بها بعض الموظفين بوزارة الثقافة مقابل منح البطاقة أو تسهيل الحصول عليها حتى أن أحد المديرين أقيل من منصبه لما فاحت رائحته وعين في إدارة أخرى الى أن هدأت الأوضاع وعادت الأمور الى سالف نصابها وعاد الدر الى معدنه، وبإمكان الوزير المؤقت إن وجد الوقت لذلك أن يفتح هذا الملف الشائك وأن يحيله الى التحقيق لدى الدوائر المختصة وسوف يكتشف أنه لا يقل أهمية عن سرقة الآثار التي جعل منها ديدنه. لم يشأ مسؤولو القطاع الرسمي بالوزارة حذف هذه المعرّة أو التفريط في مهمة اسنادها الى الهيئات المعنية لأنهم كانوا سيحرمون من دخلها المتأكد ومن سيطرتهم السياسية على المشتغلين وجعلوا غطاءهم القانوني لجنة معينة تمتحن المرشحين وتسند أنواعا من البطاقات ما بين الوقتية الى التي مدتها خمس سنوات مرورا بالمتجددة سنويّا. وطاقية الإخفاء هذه هي التي اختبأ تحتها بعض المتنفذين في الإدارة الثقافية منذ عام 1958 الى اليوم وأثروا منها ثراء لا ريب فيه، فقد جعلوا منها معينا متدفقا لا يعلمه سوى حاملي البطاقة من أهل المهنة في كل مكان والمحتاجين للاسترزاق والاستظهار بها لدى أعوان الشرطة إذا وجدوهم متلبسين بالعمل الفني في الحفلات الخاصة أو العامة إلا استثناء. هذا الإجراء التسلطي هو من سمات الأنظمة الشمولية التي تبسط أبويتها أو دكتاتوريتها على مواطنيها باسم الوطنية والأخلاق وبدعوى ضبط العلاقات بين شرائح المجتمع وتقنينها فتجعل كل واحد منهم تحت مجهر السلطة ولا يتحرك إلا بمقدار والحقيقة أن الأمر يتحمل مسؤوليته كذلك المشتغلون في الحقل الفني أنفسهم حين ظلوا سنوات عديدة تحت ربقة هذا الضيم ومدوا رقابهم كالنعاج ولم يطالبوا بالحق الذي يترتب وجوبا عن هذا الإجراء. فالوزارة التي سنت هذا القانون وحرصت على تطبيقه كان يجدر بها أساسا أن تحدث صندوقا للبطالةfonds de chômage يتولى تعويض أصحاب البطاقة باعتبارهم حرفيين حين تتأزم الأمور الاقتصادية وتتعطل الدورة الفنية مثلما يحدث الآن أو أن تتخلى عن دور الشرطي بالوكالة الذي كانت تقوم به وأن تترك أهل المهنة يتنظمون بما يحفط حقوقهم وحقوق الآخرين. ويبقى السؤال المطروح في ظل التناحر الداخلي الذي تشهده الساحة اليوم: ماهي الحلول الكفيلة بذلك خصوصا أن البعض ذهب في ظنهم أن تنظيم جمعية أو نقابة يكفي لكي يستفردوا بمصير المهنة وأن يفصّلوها على مقاسهم، وقد بدؤوا بالفعل ينشرون الشائعات في هذا الاتجاه. فالمنطق القديم لا يزال متغلغلا في المجتمع والكثيرون لم يغيّروا ما بأنفسهم وظلوا يتصرفون بعقلية الهيمنة والاستحواذ كما تربّوا على ذلك معتقدين أن الثورة تتمثل في الاعتصام والاحتجاج فقط وليس في القطع مع الفكر العقيم وتقديم الحلول البديلة المبنية على المعرفة. إن الأمر لا يتمثل في اقتلاع رأس بصل وإنبات ثوم مكانه ولكن في التخلص من الاثنين.