يمثل الحبيب بوعبانة مدرسة تونسية خالصة في الممارسة التشكيلية لا يمكن بأي حال من الأحوال وضعها في خانة أو مدرسة أو أسلوب. وأكاد أقول أنه من الفنانين الذين انسلخوا منذ أعمالهم الأولى عمّا يسمى بمدرسة تونس وقوانينها وذوقها و دلالتها الجمالية والإجتماعية. لقد أعاد الحبيب بوعبانة الفن التشكيلي التونسي إلى درجة الأولى في التعبير، حين يكون هذا التعبير بسيطا وبليغا وقادرا على القبض على الحالة الإنسانية في أبعدها الكونية وعلى اللحظة المعاشة في بعدها التونسي المحليّ، سواء كان ذلك على مستوى أدوات التعبير التشكيلية المادية أو على مستوى الموضوعات، هي مضوعات مُربكة ومباغتة لا تشعر أن إنجازها على سطح اللوحة قد خطط له سلفا أو استحضر فيها صاحبها نموذجا جاهزا، إن أعماله إختلاجات إنسانية للكائن المسكون بالنبض والحياة اليومية و ميثولوجينها. . بعد غد تمر على رحيل الرّسام و الفنان التشكيلي التونسي الحبيب بوعبانة (مواليد 1942) ثماني سنوات كاملة (توفي الفنان يوم 23 مارس 2003). .. نستذكر فيه هذه الأجواء التي تعيشها بلادنا بعد قيام الثورة التونسية التي كان بالإمكان أن يعايش أجواءها. فعالم الحبيب بوعبانة التشكيلي لم يكن منقطعا عن نبض الشارع التونسي، فهو الذي قد سكن قلب الشارع شارع الحبيب بورقيبة – الذي شهد يوم 14 جانفي قرار الشعب التونسي في رفضه للظلم و انتهاك الكرامة و افتكاكه الحي والمتوهج للحرية. كنت أتمنى شخصيا أن يشهد بوعبانة الثورة، وكنت أتمنى أيضا أن يشهدها فنانون آخرون كالحبيب شبيل وعبد الرزاق الساحلي و فوزي الشتوي. .. لعل ذلك ينعكس في أعمالهم الفنية فتكون الثورة التونسية خالدة بإمضاءاتهم. لكن هذا قضاء لامرد له. .. ولعل بوعبانة كان أكبر الفنانين التشكيليين الغائبين عن هذه الثورة التي حلم بها كثيرا رغم محاولة النظام الثقافي الرسمي استقطابه ومغازلته بالجوائز والنياشين. .. لقد كان بوعبانة صوتا من أصوات تلك المعاناة التي عاشها الفنان التونسي بصدق وألم في حين هرول البعض من الفنانين التشكيليين في خدمة النظام والصمت على وظيفتهم الأساسية وهي إبلاغ رسالة الفن كرسالة احتجاجية من أجل واقع أفضل. ..لا أعني بهذا الكلام أن بوعبانة كان مناضلا سياسيا أو فنانا ملتزما ولكنه كان بشكل مدهش حاملا لذلك الحلم الشعبي من أجل الحرية من خلال تعبيرها على انكسار الذات والحرمان والأحلام المجهضة. لم يكن الحبيب بوعبانة مجرد فنان تشكيلي، بل كانت حياته اليومية جزءا من ذلك التألق الجمالي و جزءا من اشتعال ذاته الرافضة للأوضاع، أوضاع الفنان التشكيلي التقليدية المنخرط في جماعة أو تيار أو مدرسة. كان فنانا يعيش حريته ويعبر عنها ما استطاع بالرسم أو بالشعر أو المقالات التلقائية المزدحمة بالخواطر والحكمة و الأحلام والكوابيس والغضب.. الدارج أو بالتسكع في الليل الطويل التونسي بين حانات البحر الأبيض المتوسط كما هو الحال عن الدوعاجي يختزل بوعبانة حدودها من باب البحر إلى آخر الشارع الرئيسي تؤنسه القطط المتشردة وتناجيه عصافير أشجار الشارع الرئيسي وقد أوت إلى أوكارها. .. عالم الحبيب بوعبانة عالم مزدحم بالقصص الخلفية و مكتض بالشخوص المهمشة، والأرواح الحلوة البسيطة والألوان المحلية. علمه ليس بالعالم الفلكلوري الذي استسهل فنانه رسمه بل عالم تونسي يناشد الحرية والجمال ويلتقط تلك اللحظات العابرة للتونسيين في حياتهم وأحلامهم و انكساراتهم. الحبيب بوعبانه مترع بحب البلاد كما تعكس ذلك قصائده البسيطة التي تخونها اللغة والبلاغة وتتجلى بشكل مربك في أعماله التشكيلية طوال مسيرته الإبداعية. وهذا الحب للبلاد الذي يعبر عنه الحبيب بوعبانه في ما يخطه من قصائد بسيطة لا يخلو من ذلك الحس الشعبي الجميل، فهو لا يني يحلم بثورة شعبية تنصف الفقراء والمحرومين والمهمشين. نستذكر في هذا الشأن ذكرى رحيل الحبيب بوعبانة لكي نذكر مرّة أخرى بالوضعية المردية والبائسة للفنان التونسي في ظل النظام السّابق والذي لا يطالب من الفنان إلا المناشدة والتزلف والسير في ركاب جوقة التصفيق والموالاة. لنستذكر كذلك تلك الحصانة الواهية و الهشة التي يعيشها الفنان التونسي خاصة إذا كان فنه صادقا ومعبرا عن هوية الشعب وأحلامه وآمله. و من باب هذه الحصانة المفقودة يتنزل استذكار الفنان الحبيب بوعبانة بوصفه كان ضحية للبوليس التونسي الذي لا يعير اهتماما لقيمة الفنان، خاصة إذا كان هذا الفنان شعبيا وساكنا في قلب الحياة اليومية وهو حال بوعبانة الذي قتله البوليس وكسر روحه إلى الأبد. وحكاية هذا القتل المتعمد يرويها بعض المقربين من الفنان اللذين تولوا الوقوف ماديا ومعنويا مع الرسام طوال سنوات إلى حين وفاته وهو عبد الرزاق خضر الذي يسميه بوعبانه « إبنه البار» حيث أنه في آخر شهر فيفري وفي إحدى الليالي الباردة، وحين هم الرّسام بالرجوع إلى بيته في منطقة الدندان تخاصم مع سائق سيارة الأجرة، حين لم يجد بوعبانة ثمن الأجرة، فتدخلت الشرطة، و أوقف الفنان رغم كبر سنه وأهين في مركز الشرطة، ثم أحيل على القضاء بعد أن تشدد رئيس المركز في القسوة عليه واتهامه بالتشويش المتعمد و الإخلال بالنظام العام و لم يتم معاملته بالكيفية التي يعامل بها الفنانون أو الكتاب في البلدان المتقدمة، وتم إيداعه السجن لمدة أسبوعين، و حين أخرج من السجن كسرت روح بوعبانة و سقط في حالة من الإكتآب الشديد أودت به في نهاية المطاف بعد أيام إلى الموت. كسر البوليس التونسي الجاهل في زمن بن علي روحا مفعمة بالفن والحب والعطاء، وقتل من خلال إهانته لهذه الذات الشاعرة الحية رغبتها في الحياة فقرر صاحبها الذي كان يتوهم أنه له مكانة في المدينة باعتبارها حارسها الليلي الرحيل دون رجعة، وحرمنا من عطاءات فنان تشكيلي كبير لا يتكرر نوعه.