قِيلَ للفيلسوف الرواقيّ زينون وكان زاهدًا لا يطلب غير قُوتِ يومه «إنّ الملِكَ يَبْغَضُك» فقال ساخرًا: «وكيف يُحبّ الملِكُ من هو أغنَى منه؟» عبارةٌ تصحّ في شأن علاقة الطغاة بالمثقّفين عمومًا. فالطاغية لا يحبّ من الثقافة إلاّ ما أحبَّ منها قياصرةُ الرومان: ألعاب السيرك وهرج المصارعين وهم يَشْغَلُونَ المُواطنَ عن مصيره بمَشاهدِ تبادُلِ اللكمات وسفك الدماء. من هذا المنطلق لم يدّخر النظام التونسيّ السابق جهدًا على امتداد عقود لتهميش المثقّفين محاولاً تلهيةَ بعضهم ببعض وتغليب التهريج على الإبداع واختزال الثقافة في «فُرجة» شبيهة بمهرجانات الحلبات الرومانيّة. إلاّ أنّه فشل في تحقيق أهدافه. وباستثناء عدد محدود من أبواق الدعاية فإنّ في وسع المراقب المنصف أن يقرّ بأنّه كان نظامًا بلا مثقّفين. والدليل أنّه لم يجد غير أشخاص معيّنين يتبادلون المواقع كلّما احتاج إلى من يدافع عنه. في المقابل ظلّت الساحة خصبة بأجيال من المثقّفين المبدعين الصامدين كلّ على طريقته، من المفكرين والمسرحيّين والسينمائيّين والفنّانين الموسيقيّين والتشكيليّين والأدباء والشعراء، فضلاً عن المربّين وأساتذة الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع وغيرها من المجالات، حيث نمت قِيَمُ المقاومة والحريّة والكرامة التي أتاحت لشعلة الثورة أن تصمد وأن تنضج. إنّ من حقّ هؤلاء المثقّفين بل من واجبهم أحيانًا أن يختاروا التحرّك من الهامش. لكن من الظلم أن يُهمَّشُوا قبل الثورة وبعدَها، وكأنّ الشأن الثقافيّ يتيم العائلة الأبديّ، وأوّل ما يُضحّى به بتعلّة الظروف والأولويّات. وإذا كان على المثقّفين تحديدًا، أن يلملموا صفوفهم بسرعة كي لا يهونوا على غيرهم، وكي لا يستمرّ البعض في محاربتهم بنفس الأدوات التي استعملها الطاغية: الإقصاء والتخوين والثلب والابتزاز ومحاكمة النوايا وكتابة التقارير وترويج الإشاعات وإلقاء التّهم جزافًا، فإنّ من واجب الساسة الجُدُد أن يثبتوا هم أيضًا أنّهم يتعاملون مع الشأن الثقافيّ في قطيعة تامّة مع سياسة ما قبْل الثورة. الثقافة في وجه من وجوهها هي النظر إلى الأمر الواحد من زوايا متعدّدة. وهي من ثمّ مدرسة للحوار مشروطة بتعدّد الرؤى والأطروحات بينما الطاغية لا يؤمن إلاّ بالرأي الواحد وبأطروحته هو تحديدًا. الطاغيةُ يَقْمَعُ لأنّه عاجزٌ عن أن يُقنِع. بل لعلّه لا يهتمّ بالإقناع أصلاً مادام معتزًّا بالاستبداد عن إيمان بأنّه غير محتاج إلى ثقافةٍ غير الفساد. الثقافة ذاكرة المجتمع ومخيّلته في الوقت نفسه. ولا يمكن للسياسيّ أن يطوّر مجتمعًا وأن يحصّنه إذا لم يول أهميّة قصوى إلى كلّ ما يجعل الذاكرة في خدمة مخيّلة متحرّرة في حاضرها قادرة على إبداع مستقبلها. والثقافة من هذا المنظور وقود الحريّة والكرامة. قد يُتاح لنا أن نعثر على طغاة يتسلّحون بالتكنولوجيا وبوسائل الإعلام الحديثة لكنّنا لا نجد طغاة يتسلّحون بالثقافة لأنّ الثقافة من طبيعة مناقضة للطغيان. لذلك يهمّش الطُّغاة الثقافة والمُثقّفين ويغلّبون عليهم عددا من المكلّفين بمهمّة التمويه ويعوّضونهم بديكور وأكسسوارات تنتحل صفة الثقافة من وراء احتفاليات التسلية السطحيّة وتظاهرات قتل المعنى. ومهما كانت النوايا السياسيّة صادقة وشعاراتها نبيلة، فإنّها تظلّ مجرّد نوايا وشعارات ما لم تتحوّل إلى ثقافة وإبداع وما لم يُساهم في تحديدها وصياغتها مثقّفون ومُبدعون. وإذا كان من طبيعة الاستبداد أن يهمّش الثقافة والإبداع فإنّ من غير الطبيعيّ أن يظلّ حضور المثقّفين والمبدعين التونسيّين محتشمًا بعد اندلاع الثورة. ولعلّ الأوان قد آن كي يسجّل الشأن الثقافيّ حضوره الذي هو به جدير في الخطاب السياسيّ الجديد، وأن تشرع الأحزاب الجديدة في الإجابة على عدد من الأسئلة الثقافيّة التي يطرحها عليها المواطن عمومًا، ومن بينها: ما هي رؤية هذه الأحزاب للثقافةِ في علاقتها بالتربية، وفي صلتها ببناءِ هُويّةٍ لا ترفع شعار الانفتاح قناعًا للذوبان ولا ترفع شعار الأصالة قناعًا للانغلاق؟ ما هي التدابير والحلول التي تقترحها هذه الأحزاب لإعادة الاعتبار إلى الثقافة المنتجة للمعنى، في غمرة التحديّات الاستهلاكيّة والفرجويّة؟ أيّ حجم لحضور المثقّفين والمبدعين في تشكيلات هذه الأحزاب الجديدة، بصفتهم تلك، لا بصفتهم محترفي سياسة، أي في سياق تنظُّمٍ من نوع جديد، لا يضطرُّ أحدًا إلى المفاضلة بين وعيه النقديّ والانضباط؟ بين الاستقلاليّة والاستقالة؟ ما هي اقتراحات هذه الأحزاب بخصوص تظاهرات الثقافة ومؤسّساتها وفضاءاتها ومصادر تمويلها، لتكريس قطيعة حقيقيّة مع «ثقافة» النظام السابق الاستهلاكيّة التلهويّة، التي غلبَ عليها شعار «تدبير العربون وتكبير الحضبة»؟ وإذا كانت الثقافة «خبز الفقراء» كما يُقال، فما هي الحلول التي تقترحها هذه الأحزاب، كي لا يظلّ هذا «الخبز» أغلى من أن يستطيع الفقراء شراءه؟