(رئيس جمعية الفنانين التشكيليين بالقيروان) شهدت الساحة الثقافية بالقيروان منذ سنة 1998 حركية جديدة قادتها جمعية الفنانين التشكيليين التي ضمّت ثلّة من الشباب والكهول جمعت بينهم الرغبة في الإسهام البنّاء لشكل من أشكال التعبير الذي بقي لفترة طويلة غير معروف لدى أغلب المتساكنين من أبناء الجهة، حيث أصبح رواق محمّد الحليوي مركزا يستقطب الكثير من الرواّد المتعطّشين لاستكشاف هذا العالم المشوب بالغموض والرموز التي لا يمكن أن يفكّك شفراتها إلا اللقاء مع المبدعين الذين لازموا في كثير من الأحيان هذا الفضاء وفتحوا مع الزائرين مجالا للتبادل الإيجابي من أجل إبراز التمشّيات الذاتية، لتلتقي في ذلك الذاتية المبدعة مع مضامين إنسانية عالميّة وتتوحّد الآراء في نظرة إبداعية متجدّدة للمنتوج الفنّي فتلهمه وتستلهم منه عبقرية الفكر الإنساني في أبرز تجلّياته. الفقيد «حمادي السكيك» كان وجها من الوجوه المرابطة في هذا الفضاء وقد أصبح رمزا من رموز الحركة التشكيلية بالقيروان يستأنسه الجميع لما كان يتّسم به من رحابة صدر وروح متحرّرة من قيود المجتمع وضوابطه الثقافية أو لنقل الأخلاقية في المفهوم الغربي لأن الرّجل لم يكن يؤمن بضرورة تبنّي بعض السلوكات والأفكار المتوارثة والتي يرى أنها قد تكبّل جموحه وتوقه إلى حرّية مثلى يمكن لكلّ فرد من خلالها أن يؤكّد ذاته وأن تلهمه القدرة على التجاوز دون خشية من بطش سلطان أو عقاب تسلّطه الأقدار. قد شاءت الصدفة أن يغادرنا الرّجل في جوّ سحري من الحرّية كان حلمه الدائم، نثر عبقه نسيم ثورة مباركة لا تزال تنعش نفوسنا وتغذّي أفكارنا حتّي تنساب الكلمات معطّرة بعطرها، مشحونة بحماستها ومنمّقة بجمالها. وما كان لي أن أكتب في حقّ هذا الفنان بما تستحقّ روحه الأبيّة لولا هذه الحرّية التي أراها ذات الحرّية التي كان يتوق إليها من خلال رسومه. عاش حمادي السكيك في القيروان جسدا ولكنّ روحه كانت تحلّق في رحب أوسع من المدينة لتلتقي بذاكرة التاريخ فيها فتدفعنا لنتلمّس الرطوبة التي تدفّق من جدرانها فتمتزج بزرقة وبياض يوحيان بالعراقة والعمق وتصبح المدينة الشيخ المنهك الذي رسمت على ملامحه تجعّدات الزّمن. حمّادي السكيك ذاك الرّجل الجامح الذي لم تستطع ترويضه الإيديولوجيات مهما كانت منابعها ومشاربها ولم تستطع التيارات الفنّية المعاصرة باختلاف توجّهاتها أن تقود إنتاجه، لزم أسلوبه الذي يرى فيه ذاته دون تأثّر بما يصاغ حوله من أساليب سيطر على مجملها الطابع التجريدي بما تحمله الكلمة من معاني. تراه ملازما لخطوطه ورسومه منذ أن عرفته شابّا يدرّس بمدينة حفوز بعد قدومه من فرنسا أين زاول تعليمه العالي وتعرّف على زوجته الأولى «جوزيان». والباحث في ملفاته سيكتشف العدد الهائل من الرسوم التي تحكي ذاته، لعلّه في ذلك يبحث عن حقيقة ما، مهتديا بما دعا إليه افلاطون للتعرّف عن الذات. فالذات تحمل في طيّاتها ما يجعلك تتعرّف على الآخر. بهذا كان حمادي السكيك يتخاطب مع الآخر. فالتعابير المختلفة التي تضمّنتها رسومه لذاته كانت تعكس العالم الباطني الذي يعيشه والتحولات النفسية التي تتسم بالحزن والحيرة أحيانا، لعلّ بعده عن ابنه «سمير» الذي لم يتمكّن من رؤيته مجدّدا منذ فارق الزوجة الأولى هو الذي أرّقه. معاناة كان يعيشها «حمادي» دون أن يبوح بها إلى أحد لكنّها كانت تتسلّل إلينا من خلال رسومه ولعلّها المعاناة التي قيّضت حياة الرسّام الهولاندي الشهير «فانسون فان قوق» ليؤكّد لنا ما ذهب إليه محمود المسعدي بأن الفنّ مأساة أو لا يكون. فليس من الغريب أن يتأثر حمادي السكيك بأسلوب فان قوق و أن يتقمّص جبّته لعلّه قد يجد فيها ما يتجاوب مع ضميره المستتر أو يشفي ألمه من حرّ الفرقة والهجران. قد كنت أعجب لصمود الرّجل أمام كلّ الإغراءات المعاصرة في عالم الإبداع التشكيلي وكأنه ضرب عهدا على نفسه بأن يكون أمينا للدرب الذي سار عليه منذ البداية حتّى أنّني لا أكاد أميّز بين أعماله الحديثة وتلك التي أنجزها منذ عهد بعيد. حمادي السكيك هو ذاك المرء الذي عرفه الشباب المثقّف بالقيروان وتفاعل مع رسومه دون أن يجد عسرا في فهمها فلم تكن مستعصية عن الإدراك المباشر لمضمونها لأنها التزمت بالواقعية، لنقل واقعية في ثوب سيطر عليه الطابع الهندسي الذي قاد الفنان في أغلب إنتاجاته حتّى تلك التي صمّمها لأغراض ركحية. فالفقيد لم يقتصر إنتاجه على اللوحة التشكيلية، بل استهواه عالم المسرح والسينما وعقد صداقات مع فنانين تعامل معهم في هذا المجال مثل «هشام رستم» الذي كان أحد هؤلاء وهو أقربهم إلى قلبه لأنّه أنس فيه دفءا إنسانيا وصدقا نادرا ما يتوفّران لدى عامّة الناس. حماّدي السكيك، وإن رحل عنّا فإنّ رحيق فنّه بقي ليعطّر المكان من خلال ما تسرّب من تأثير له على بعض المحيطين به من أصدقائه والذين كان يقاسمهم بعضا من أحلام اليقظة، وكأنه يلهمهم السحر الذي قاده في كلّ ولادة لعمل جديد. «أحمد بن حميدة» هو أبرز المستلهمين وكأنه كان مدفوعا بفعل ذاك السحر إلى الغوص في لبّ الأشياء فيتجاوز لديه اللون صبغته اللونية ليصبح مادّة حاضرة بمادّيتها نافذة في النفس نفاذ الوحي ويلتقي فيها مع تجلّيات الخلق مادّة وروحا تردّد موسيقى صوفية أغرقت صاحبها في بحر الخلود. صورة فتوغرافية للفقيد حمادي السكيك