غيب الموت صبيحة يوم الخميس الماضي قامة فنية وإبداعية كبيرة وفلتة من فلتات كتابة التاريخ وفهم الجغرافيا بريشة الفن التشكيلي الضارب في التركيز والإيحاء والمستنطق لروح الأشياء.. غيب الموت الذي لا بد لنا منه يوما قاموس حب وعشق فريد للقيروان ومجلد إبداع عاطفي يختلف في تفاصيله وفي بوحه وفي اعترافاته عن الركاكة التي يقدم بها المبدعون أنفسهم هذه الأيام.. غيب الموت أجدر من تنطبق عليه قيروانية القيروان ..انه المبدع والمعلم والمثقف الفنان الجامع الكبير حمادي السكيك صاحب أعظم وأنبل ترميز تشكيلي صامت يحيلك دون تعب الى تدخل مدينة الاغالبة آمنا من النشاز ومرتاح الضمير.. غيب الموت هذا الفيلسوف الجمالي الذي يجعلك وأنت تشاهده وهو يقود دراجته بين أزقة وحارات القيروان تشعر ان لهذه المدينة بالفعل مفاتيح لعديد المغاور الإبداعية وحمادي السكيك واحد ان لم اقل أهم تلك المفاتيح على الإطلاق.. غادرنا إذن حمادي السكيك، وجمعتنا من جديد مقبرة قريش،واكتشفنا في خشوع تام ونحن نسير في جنازته وأرجلنا مثقلة بوجع فراقه وافتقاده انه وهو مسجى يأبى إلا ان يقدم لنا آخر دروسه في ميتافيزيقا الحضور والرحيل وذلك قبل أن يوارى التراب، كان صوته يؤبننا بدلا من ان نؤبنه..كان يبكينا بدل ان نبكيه ..وكان يقرأ علينا فاتحة الرحمان قبل ان نبادره بها جموعا لنغادر بعدها ونضيع من جديد في زحام الحياة.. غادرنا حمادي السكيك واكتشفنا بعد فوات الأوان درسه الأخير..اكتشفنا سر موته ومعاني هذا المصاب الجلل المتمثل في فقدانه، اكتشفنا ان حمادي السكيك غادرنا لأنه استعصى عليه لقاء الأحبة بانتظام وهو على قيد الحياة فاسلم الروح وهو على يقين أننا سنكون جميعا الى جانبه في الموعد هذه المرة لندلله بحب وصدق ونقول له ما يود سماعه منا..لقد غبنا عنك كثيرا..وها انت تحضرنا لنعترف لك بأننا فهمناك أيها الغالي ولكن ليس بعد فوات الأوان.. فهمناك في القيروان وسوسة وتونس والمنستير وبنزرت وفرنسا وسوريا..فهمناك في كل الأقطار..وترحمنا عليك بكل اللغات..وعدنا نبحث في أرشيفك الإبداعي الهائل عن رسائل خطتها أناملك السحرية وتأخر وصولها الينا..ولكننا بشغف جئنا لنحملها ونحميها ونطالب بان تكون لوحاتك دستورا للإبداع الثوري الجمالي في القيروان وان تتصدر أهم القاعات بدار الثقافة في جناح يحمل اسمك ويحيل الى إبداعك وسحرك..نعم أيها الفقيد الحاضر..الراحل الماثل في القلوب والعقول والضمائر، إننا في عالم يسهل فيه إنتاج آلاف الطغاة وتصدير أطنان من الرداءة الفكرية وأشباه الأدباء والفنانين الأشاوس !! ولكن يصعب فيه إنتاج ربع فنان يحمل خصالك..رؤيتك..فنك..إبداعك..فنان يتماثل بالمدينة.. فإذا بحمادي هو القيروان وإذا بالسكيك هو الاغالبة..نعم أيها المعلم الخالد..هل تصدقني حين أقول لك ان تونس كلها حزنت لرحيلك ونكّست رسومها احتراما لفنك وإجلالا لموهبتك ..هل تصدقني حين أعلمك ان جمل بروطة لاح يوم الجمعة كئيبا على غير عادته بعد ان تأكد من رحيل أعظم من صور معاناته واصدق من رسم تجاعيد وجهه الشاحب..هل تصدقني حين أعلمك أننا جميعا قد بكيناك .. وجميعا قد حزنا عليك.. وأننا كنا في خضم فعل الحزن هذا نستمد شرعيته السوسيو-نفسية من حزن المدينة نفسها بقعةً جغرافيةً لا مكان فيها لحفرة أو معلم اثري وهندسي لا يحيل الى حمادي السكيك..لقد كنت القيروان يا صاحبي ..كنت المدينة والأحياء والأزقة والشخص ولهذا قبلنا ان تكون قيروانك كما أحببتها وعشقتها وكما أحبتك وعشقتك أول من ينقل خبر وفاتك..وأول من يتقبل فيك التعازي بعد رحيلك..قبلنا جميعا ونحن في منتهى الصدمة ..وفي منتهى الشوق إليك..ان نترك للقيروان فرصة تأبينك بنفسها ..فرسمت صورتك سريعا وخطت تحتها بعباراتك التشكيلية لا تصدقوا أحدًا : إنّ عباقرة القيروان لا يموتون..