خطت الحياة السياسية في بلادنا خطوات هامّة في طريق القطع مع الماضي وبناء أسس جديدة للحراك والفعل السياسي المدني والمتحضّر. صور ومشاهد لم يألفها الناس أصبحت تؤثّث المشهد السياسي والإعلامي بصفة يوميّة، اجتماعات وتظاهرات وبيانات وندوات، والأهمّ من ذلك كلّه انعتاق المواقف والآراء من كلّ المكبّلات والعراقيل إذ غدا الجدل السياسي والفكري بمثابة القوت اليومي للمواطن الّذي لا مناص له منهُ. الحراك ودرجة التغيّر أصبحت بيّنة وجليّة على أكثر من مستوى، صحيح أنّ هناك العديد من الثغرات والنقائص وأنّ عديد المسائل ما تزال في حاجة إلى المراجعة والتعديل، ولكن تلك هي خاصيّة كلّ المراحل الانتقاليّة: لا بدّ من مثل ذلك المخاض «التجريبي» حتّى يتمّ تمييز الإيجابي من الرديء ومن الأكيد أنّ الحياة السياسيّة ستتخلّى وبصفة مرحليّة وتدريجية ولوحدها وبصفة طوعيّة وإراديّة من كلّ مظاهر السوء والرداءة. انتكاسات الماضي وصورها الرديئة متعدّدة ولا حصر لها ، ومن الوجيه القول في مثل هذه اللحظة إنّ الحياة السياسيّة التونسيّة لم تعرف حراكا عاديّا على مدار العقود الخمسة الماضية التي طبعتها سياسات الانفراد والظلم والقمع ونفي النفس المعارض وطمس الاختلاف وضرب الرأي الآخر. لكن تتّجه هذه الحياة إلى مُلامسة واقع جديد مُغاير، فيه الرأي والرأي الآخر وفيه الجدل البنّاء والمثمر الخادم للشأن الوطني وللمجموعة الوطنيّة، وشيئا فشيئا ستتمايز الخطوط وستّتضح ملامح الحريّة الفعليّة والديمقراطيّة الحقيقيّة التي كان الشعب جديرا بها منذ فترة سابقة ولكن سياسات النظامين الحاكمين السابقين اختارتا ضرب تلك الحريّة وتلك الديمقراطية تحت عناوين مختلفة الجامع بينها قمع الاختلاف وتزييف إرادة الشعب وضرب توجهاته واختياراته. نعم، تعيش بلادنا اليوم، النسائم الأولى لعهد الحرية والديمقراطيّة، ومن الواجب على كلّ الأطراف التحلّي بروح المسؤوليّة الوطنيّة والتنحّي عن كلّ الرغبات أو الأجندات الفئويّة والضيّقة، أيّا كانت مرجعيتها أو منبتها، والانكباب على تفعيل الانتصار الصادق لشعارات الثورة ومبادئها السامية والجليلة؟