٭ بقلم: محمد الفاضل البشراوي (أستاذ في الجامعة التونسية) لقد اتسم الخطاب العلماني بعد الثورة بالضبابية في تحديد مفهوم العلمانية وبمبالغته في اعتبار الإسلام هدفا ترجى هزيمته. وذلك كله فيما يشبه حملة انتخابية استباقية تبنت فيه هذه الأطراف العلمانية ومن حيث لا تشعر خطاب المعارضة المهزومة سلفا والتي تسعى إلى تدارك أوضاعها مسبقا. وهي لا تبد قادرة على تحديد خصمها الحقيقي في هذه المعركة أهو الدكتاتورية أم الإسلام. لقد صار الإسلام يزعجها لمجرد كونه كلمة ورد ذكرها في دستور الاستقلال إقرارا بهوية الوطن منذ أربعة عشر قرنا والتي لم يفلح الاستعمار في طمسها لا بقوة السلاح ولا بإغراءات ما كان يدعيه من حضارة ورقي. وإنه بإمكاننا اختصار ملامح خيبة المشروع العلماني وتخبطه في النقاط التالية: 1- إن ما أثبته لنا التاريخ إلى حد اليوم هو أن لا شرعية سياسية في تونس خارج الهوية العربية الإسلامية أيا كانت الظروف ومهما اختلفت موازين القوى وأن جميع محاولات ضرب الهوية الإسلامية أو طمسها كانت دائما مرتبطة بمشروع أجنبي لغزو البلاد. وما صمود هذه البلاد أمام سان لوي (1270)، وأمام ملك اسبانيا شارل الخامس (1535)، وتمكنها من التخلص من الاستعمار الفرنسي بعد 76 سنة من الاستيطان والتمييز والقهر والنهب والسلب إلا دليل على تمسكها الراسخ بهويتها الإسلامية التي ظلت دائما عنوان نخوتها وعزتها واستقلالها. والعثمانيون لما دخلوا البلاد (1574)، وفي أعداد معلومة من العسكر، فاتحين ومنتصرين لأهلها على الغزاة الإسبان لم يدخلوها إلا على أساس هذه الشرعية. لقد دعموا هويتها الإسلامية من حيث أنهم مسلمون أيضا، كما دعموا هويتها اللغوية ولم يسعوا إلى فرض اللغة التركية نظرا لأهمية اللغة العربية وارتباطها بالقرآن الكريم. وكل ما عرف من استخدام للسان التركي كان منحصرا بالأساس داخل الجالية التركية ذاتها ولم يكن أبدا موجها لمن سواها من السكان. 2- الهوية الإسلامية (والعربية) المنصوص عليها في الدستور لم تكن منحة لا من بورقيبة ولا من ابن علي ولا علاقة لها بالاستبداد السابق للثورة. تلك هي هوية البلاد التي ما انفكت الحركة التحررية تنادي بتفعيلها على جميع الأصعدة فور الحصول على الاستقلال. ولما كانت الثورة الحالية امتدادا طبيعيا لحركة الاستقلال واستمرارا لها كان من الطبيعي كذلك أن تطرح هذه المسألة من جديد. بل إن مجرد طرحها من أي جهة كانت وبأي وجه من الوجوه، يعد في حد ذاته دليلا قويا على أن ثورتنا هذه إنما هي الشوط الثاني من معركة لم تكتمل بعدُ صرنا نسميها معركة الاستقلالية والخروج من التبعية بعد أن كنا لا نتحدث في الشوط الأول إلا عن معركة الاستقلال الإداري عن فرنسا. وتنقسم القوى المتصارعة داخل البلاد في هذه المرحلة الثانية إلى قوى رجعية تريد أن تعود بنا تحت وطأة الشعور بالنقص إلى عهود الهيمنة الغربية، التي تقلبت أشكالها وتعددت من دخول الاستعمار إلى سقوط نظام بن علي، وإلى قوى تحررية تريد أن تستكمل للأمة سيادتها وتستعيد لها المرتبة التي تستحقها بين الأمم. ومطلب الحداثة والتقدم التكنولوجي لم يكن يوما ما حكرا على الطرف العلماني كما يزعم بعض أصحابه. بل إن أبرز معالمه في تونس تعود إلى ما قبل الاستعمار مع إحداث مدرسة المهندسين بباردو على يد أحمد باشا سنة 1840. وكان مطلبا إسلاميا بصريح العبارة طبقا لهوية البلاد ذاتها. 3- العلمانية في تونس علمانية أقلية وليست علمانية أغلبية. وذلك خلافا لما نشاهده في فرنسا وفي عامة الدول الأوروبية والغربية. والعلمانيون من هذا المنطلق يدركون صغر حجمهم، وسندهم في الخارج أوسع من سندهم في الداخل. فأقطابهم لا يفوتون الفرصة للتقرب من الغرب والانخراط في مؤسساته العلنية والسرية. وهم أعجز من أن يأتوا بخطاب جديد يعفيهم عيوب التقليد. إنهم يتحدثون عن العلمانية كما يتحدث أي مسؤول غربي إلى الأقلية المسلمة في بلده، ويطلقون على أنفسهم اسم القوى الديمقراطية كما كان جورج بوش يتحدث عن أمريكا وعن قوى التحالف الغربي خلال حربه على العراق. 4- والأغرب من ذلك فإن هؤلاء الأقطاب يتحدثون عن الإسلام وكأنهم اليمين المتطرف في فرنسا أو في إسرائيل. فهم غالبا ما يتحدثون عن الإسلام من خلال تصرفات خاطئة أو مشبوهة أو مؤوَّلة منسوبة لجهة ما يفترض أنها تعمل بدافع إسلامي وذلك لتغليب الشك والريبة وإلحاق التهمة ضمنيا بالإسلام وهو بريء منها. وهي ذات التهم التي يروج لها في الغرب ضد الإسلام: التخلف والظلامية والاستبداد والرجعية والإرهاب والأصولية والتمييز بين الجنسين والعنصرية وحتى معاداة السامية بعد تلك الشعارات المريبة التي رفعها بعض الشباب مرورا من أمام كنيس شارع الحرية. والإسلام في أفضل صورة يقدمونها له لا يعدو أن يكون مجرد معتقدات وطقوس مسكنة لا تعني المجموعة الوطنية برمتها وإنما تعني الأفراد وحدهم. تراهم يعرّفون الإسلام بما هو ليس من الإسلام ثم يقولون إنهم ملتزمون بحق الناس في ممارسة هذه العقيدة، وكأن المسلم في بلاد الإسلام صار مدينا لأمثالهم في أن يمنحوه هذا الحق أو يسلبوه إياه. 5- ولم نسمع منهم في المقابل أي تنديد بالزلة الأخلاقية الفادحة التي اقترفتها الحكومة المؤقتة الثانية عندما فتحت المواقع الإباحية وروجت لما فيها من انحرافات وشذوذ وتحريض على الجرائم الجنسية بأبشع أنواعها. بل إن بعض أقطاب العلمانية كانوا داخل هذه الحكومة وساهموا في إصدار هذا القرار على عجل ودون استشارة أي هيئة دينية أو أخلاقية أو تربوية كما يقتضيه الحال. ولم تتجه الحكومة المؤقتة الحالية وهي الثالثة إلى العدول عن هذا القرار وإغلاق المواقع القذرة. ونحن بالمناسبة نطالب جميع من شارك في الحكومتين الانتقاليتين الثانية والثالثة بتقديم الاعتذار الرسمي للشعب التونسي بكافة أعماره أطفالا وشبابا وكهولا وشيوخا ومن كلا الجنسين عن كل ما لحقهم من الدنس والقذارة منذ 5 فيفري 2011 إلى اليوم. 6- مواقف العلمانيين من اللغة العربية وهي لغة القرآن أشهر من أن نعّرف بها. فالشعب التونسي يعرف جيدا الإذاعات والتلفزات التي تروج للغة الهجينة التي تختلط فيها العامية بشكل مفتعل مع الفرنسية، وذلك على حساب العربية السليمة والمهذبة، وهو يعرف على وجه التحديد التلفزات التي تروج إلى كتابة العربية بالحرف اللاتيني إحياء لمشروع استعماري قديم أكل عليه الدهر وشرب لا سيما بعد تطور الطباعة الحاسوبية التي تسهل على العكس كتابة جميع اللغات بالحرف العربي الموسع. بل إن من أقطاب العلمانية الذين شاركوا في الحكومتين السابقتين من دعا في سنة 2001 إلى ندوة في اللسانيات رافضا أن تقدم فيها أي مداخلة بالعربية. وكنت قد نددت بهذا السلوك في مقال نشرته بجريدة الصباح في 11 أفريل 2001. ولم يتجرأ هذا الزميل على الرد إلى اليوم. ولا زلت في الإنتظار .. 7-أما تصرفهم في السياسة فهو تصرف الأقلية الضعيفة التي لا يمكنها أن تصل إلى السلطة إلا بالحيلة والتواطؤ مع السلطة القائمة والقوى النافذة. ولا أدل على ذلك من محاولتهم التسلل إلى مراكز القرار من خلال صفقات الكواليس المشبوهة وسياسة الصالونات والهواتف النقالة والقلقالة (بالأصفار المزدوجة أو بدونها) والتي تعمل وتنشط في الخفاء والظلام خلافا لأبسط قواعد الديمقراطية كالشفافية والاحتكام إلى الشعب وصناديق الاقتراع. وما الحكومة المؤقتة والهيئة العليا لحماية الثورة إلا أكبر شاهد وأكبر فضيحة لهؤلاء أوقعوا فيها أنفسهم قبل أن يوقعهم فيها غيرهم. ثم تراهم بعد اغتصاب مواقع القرار والتأثير يروجون للديمقراطية الإقصائية والمشروطة. وشرطهم على الديمقراطية بأن تكون مسبقة بالعلمانية أو أنها لا شيء، دليل على أنهم لا يريدون الديمقراطية طالما أنها لن توصلهم إلى السلطة. وتقييد الديمقراطية بتقديم العلمانية ناتج من قناعتهم بأن العلمانية لن تتحقق بالديمقراطية ذاتها. فالعلمانية لا يمكن لها أن تقوم في العالم الإسلامي إلا بالاعتماد الكامل على نظام عسكري مستبد كما حدث في تركيا، أو بتدخل خارجي كما يتهيأ من تصريحات برنارد هنري ليفي (أحد أبواق الدعاية الإسرائيلية في فرنسا ومن المدافعين المستميتين عن جريمة أسطول الحرية) في الترويج هذه الأيام للوعد الذي قدمه في فرنسا اثنان من أعضاء المجلس الانتقالي الليبي بإقامة دولة علمانية بعد التخلص من القذافي (موقع لوموند). وذلك في خضم دوي السلاح الأجنبي وهيمنته على البلاد دون الإطاحة بالنظام. واشتراط العلمانية في تونس على هذا النحو ليس إلا تمهيدا للانقلاب على الديمقراطية في حال لم يتوصل هؤلاء العلمانيون إلى السلطة. والانقلاب عليها لن يكون إلا بالاستعانة بالعسكر أو بالقوى الأجنبية. ولقد لمحنا في تونس شيئا من هذا في تصريحات استباقية لبعض المثقفين والسياسيين لما قيل لنا إن «الفوضى» والاستمرار في الاعتصامات بالقصبة قد يفضي إلى قيام نظام عسكري بالبلاد. كما سمعنا أحد كبار المسؤولين في الحكومة الثالثة يؤكد بأن الثورات لا تؤدي بالضرورة إلى قيام نظام ديمقراطي. واللائمة طبعا على المتشددين والمستعجلين ومن لف لفهم من «أعداء الديمقراطية» كما تعودنا في النظام السابق. وسيجد العلمانيون المتطرفون في تصريحات برنارد ليفي وانتهاز الغرب فرصة التدخل في الجارة ليبيا دعما معنويا كبيرا يفوق ما قد يأتيهم من صناديق الإقتراع. 8- ولكن ماذا لو وصل العلمانيون إلى السلطة بالديمقراطية المشروطة؟ عندها تتقدم الدولة إلى إلغاء الإسلام من الحياة العامة بعد أن كان قد ألغي صراحة من الدستور قبل الانتخابات. فالإسلام يكون قد صار بطبيعة الحال مخالفا للدستور وللقوانين الدولية. ولا ينبغي أن ننسى أن للعلمانية ترسانتها القانونية المجرّمة لكل من خالفها على الأقل بالفهم الموجود في بعض أنحاء أوروبا (الحجاب، الآذان، المآذن، معاداة السامية)، والمحللة لكل ما نعتبره اليوم استهزاء بالإسلام تحت ذريعة حرية التعبير. بل قد يحظى أمثال سلمان رشدي وصاحب الصور المسيئة للرسول بجائزة رئيس الجمهورية لأفضل أديب أو فنان. ثم إن حرق المصحف قد يصير جائزا بحكم القانون طالما أن العلمانية لا ترى فيه قداسة ولا توافقا مع الدستور، وفي أفضل الحالات تساوي بينه وبين أي كتاب ديني آخر. ولا بأس طالما نحن كذلك في أن نفتح البلاد على مصراعيها للأنشطة التبشيرية والحركات السرية كما كان الحال في الفترة الاستعمارية التي كانت فيها فرنسا سباقة للمساواة بين الأديان على هذا النحو في تونس ...! 9- طبعا إن ما يشير إلى خيبة المشروع العلماني هو أن الشعب العربي المسلم لن تفوته جميع هذه الأمور ولن يقبل بالعودة إلى ما قبل 1400 عام ولا إلى أي عصر من عصور ما قبل الفتح الإسلامي. وعلى كل من نحى بالعلمانية هذا المنحى أن يتعظ بالتاريخ ويمتثل لمقومات الشرعية السياسية ومسلماتها المتمثلة في لغة البلاد وعقيدتها. وعليه أن يتذكر أيضا أن باب الديمقراطية أوسع من أن يضيقه أحد أو أن يرده إلى أسوأ درجات الإقصاء بل وأفضحها وأوقحها، وذلك مهما كانت قدرته على المناورة والتضليل. فالديمقراطية آتية إن عاجلا أم آجلا وفي إطار الشرعية العربية الإسلامية ولا سبيل إلى العودة إلى الوراء.