لم يتمّ التركيز بما يكفي حتى الآن على أحداث مدينة سوق الأحد الأخيرة، وكأنّ قدر ولاية قبلّي أن تبحث لوجهها عن مرآةٍ أبدًا ضائعة، شأنُها في ذلك شأن جهات البلاد المظلومة المحرومة على الرغم ممّا تزخر به من طاقات. في الأخبار التي وصلتني من هناك أو عن طريق أبناء الجهة الموجودين في العاصمة، ثمّةَ إجماعٌ على أنّ قافلة السفراء المدعوّين إلى جولة سياحيّة في الجنوب التونسيّ لم تكن هدف المحتجّين الذين خرجوا إلى الطريق. تؤكّد هذه الأخبار أنّ الاحتجاج كان يحتدم منذ أيّام بسبب التعامل الأمنيّ العنيف وغير المبرّر مع المواطنين. ممّا أعاد إلى الأذهان تجاوزات النظام السابق البائد وأدّى إلى انفجار الغضب والمطالبة بإبعاد ممثّلي هذا السلك ما لم يُحاسب المسؤولون وما لم يُثبتوا أنّهم قطعوا مع الذهنيّة القديمة. إذا كان لدى الجهات الرسميّة ما يفنّد هذه الأخبار فأهلاً بها وسهلاً. نحن طلاّب حقّ وحقيقة. ومن المنتظر في مرحلة ما بعد الثورة أن تعتمد السلطات الصراحة والشفافيّة، وأن لا تتجاهل المشاكل الحقيقيّة عن طريق تأويل كلّ حركة احتجاجيّة على أنّها مساس بهيبة الدولة أو اعتداء على الأمن أو مجرّد «خصومات بين عروش أو عائلات». كلّ ذلك بدعوى الدفاع عن السياحة وخوفًا من أن تُوَجَّهَ «ضربةٌ» للسياحة! حسنًا! لن يخاف أحد على السياحة أكثر من هذا الشعب فهي مورد من موارد رزقه. لكن لماذا تُزعجكم الضربةُ المزعومة التي قد تُوَجَّهُ إلى السياحة ولا تزعجكم الضربات الحقيقيّة التي ما انفكّت تنهال على أبناء الجهة وأمثالهم من أبناء هذا الوطن، حتى أنّهم لم يجدوا حلاًّ غير «الاحتراق» أو «الحرقة» في صناديق الموت؟ عميد السفراء فى تونس قال بعد الرحلة إنّ كافّة أعضاء السلك الدبلوماسيّ عازمون على «التعريف بثراء الرصيد السياحي للجنوب التونسي وبما يتحلّى به التونسيّون من كرم الضيافة». أمّا سفير فرنسابتونس فقال «إن الزيارة إلى الجنوب التونسي أتاحت الوقوف عن كثب على واقع الأمن المستتبّ بدرجة كافية». وإذا لم يكن هذا الكلام مخصّصًا للاستهلاك المحلّي فهو يعني أنّ السفراء عادوا إلى قواعدهم فرحين مسرورين، ولا ضربة للسياحة ولا هم يوجعون! فعن أيّ ضربة للسياحة تتحدّثون إذنْ؟ ثمّ تعالوا نسأل: متى تفهم الجهات الرسميّة أنّ السياحة لا معنى لها إذا كانت تتطلّب عرض المشاهد الخلاّبة والصور البرّاقة وإخفاء أهل البلد وإخفاء واقع المواطنين عن عيون السيّاح وكأنّ المواطن وواقعه مصدر خجل. كان هذا الفهم التزييفي للسياحة جزءًا من ثقافة النظام البائد. وكان عنصرًا من عناصر تقسيم البلاد إلى مناطق تُعرض على الضيوف الكرام وأخرى كثيرة تستبعد من الصورة ويتمّ تهميشها ونكرانُها وكأنّها غير منتمية إلى الوطن. ممّا يذكّرني بإحدى حلقات كلام الليل للفنّان توفيق الجبالي، تلك التي يتحدّث فيها عن شعبين، شعب للاستهلاك اليومي لا يُهتمّ بشأنه وشعب لا يُستعمل إلاّ في المناسبات أو للعرض على الزوّار! حين كنت أكتب عن أمّ الصمعة باعتبارها موطن جذوري كان الكثيرون يسألونني عن موقعها. وحين كنت أذكر قبلّي وسوق الأحد واستفطيمي وبازمة و«بشري (تونس)» بشّري وبوعبد الله وتنبيب وجمنة و«الرابطة ورجيم معتوق وزاوية الحرث وطنبار وطرّة وفطناسة والفوار و«القلعة (تونس)» القلعة و«المنصورة (تونس)» المنصورة و«المنشية (تونس)» المنشية و«نقّة» وغيرها، كانوا يهزّون الرؤوس بطريقة من لا يعرف شيئًا عمّا تزخر به المنطقة من كنوز وعمّا أنجبته من فرسانِ ساعدٍ وفكرٍ على امتداد التاريخ، وعمّا أعطت من أبطال أيّام مقاومة الاستعمار وأيّام مقاومة الاستبداد وصولاً إلى ثورة 2011. اُصرُخْ كي أراك. هكذا ظلّ النظام السياسيّ يقول لأبناء تونس وجهاتها. ومن بينها ولاية قبلي التي ظلت تصرخ شأنها في ذلك شأن مختلف المناطق المنسيّة جنوبًا وشمالاً، شرقًا وغربًا. دون أن تصبح مرئيّةً بالشكل الكافي حتى الآن. وكأنّ المرآة لم تبرح مكانها في يد نرسيس أو في يد شمطاء الحكاية. إلى اليوم لا وجود لممثّلي الجهة في تشكيلات السياسة وفي مواقع القرار إلاّ نادرًا، وما أن يتحدّث أحدُهم عن ذلك حتى ينبري له من يتّهمه بإثارة النعرات الجهويّة! وكأنّ إعادة الاعتبار إلى الجهات المنسيّة مناقض للوحدة الوطنيّة. في حين أنّ العكس هو الصحيح. إنّ إهمال جهات لفائدة أخرى محظوظة هو ما يثير النعرات الجهويّة. ولعلّ من الضروريّ اليوم المناداة بالجهويّة الإيجابيّة على غرار التمييز الإيجابيّ، ذلك النوع من الجهويّة الذي يعني إعادة الاعتبار إلى كلّ جهات البلاد، وتنميتها بأبنائها، والاعتناء بما تزخر به من طاقات، كي تصبح كلّها مناطق جاذبة، وحبّات متلألئة في عقد الوطن الواحد. إنّ في طريقة تعامُل بعض الأطراف مع هذه الأحداث ما يبرهن على أنّ المسافة مازالت بعيدة عمّا هو مطلوب في مرحلة ما بعد الثورة. لقد قدّمت ولاية قبلّي ما قدّمته سائر جهات البلاد من تضحيات أيّام مقاومة الاستعمار وأيّام مقاومة الاستبداد في مرحلتيه البورقيبيّة والبنعليّة. ومن غير المعقول أن يُكافأ أبناؤها بالمزيد من التناسي والإهمال والعضلات المفتولة التي لا علاقة لها بالكرامة والحريّة التي ضحّوا من أجلها جيلاً بعد جيل. وكأنّ حليمة لا تريد الكفّ عن عاداتها القديمة.