٭ بقلم: هشام الشابي (متفقد مدارس ابتدائية وباحث تربوي) تمكّن الشعب التونسي من خلال ثورة 14 جانفي من تحقيق الامتياز حيث انه تجاوز المعتاد وحقّق المستحيل الذي لم يكن أحد ينتظره في أي لحظة من اللحظات السابقة، فالمنتظر في المحطّات المقبلة وفي مختلف المجالات، لا يقلّ مستوى عن ذلك، بمعنى إن ما ننتظره هو الامتياز ولا نرضى دونه، والتربية لا يجب أن تشذّ عن هذا الخيار. فالمنظومة التربوية التونسية ستكون أمام تحديات عديدة لعلّ أهمها القطع مع الماضي، وهذا ما يستدعي مقاربات مستحدثة لهذا الواقع المتميّز. فأي مدرسة ابتدائية ما بعد الثورة؟ ما هو التمشي المحقّق لذلك؟ للإجابة عن هذين السؤالين فإن قراءة في واقع المدرسة التونسية ما قبل الثورة تفرض نفسها، وذلك لسببين على الأقل فللمدرسة التونسية: ٭ نقاط قوّة، تشخيصها يساهم في بناء منظومة تستجيب لمتطلبات المرحلة. ٭ صعوبات حالت دون تحقيق الأهداف المرسومة. نشير في البداية إلى أننا سنقتصر في حديثنا هنا على المدرسة الابتدائية نظرا لانتمائنا إلى هذا القطاع ومعرفتنا النسبية لخباياه إضافة إلى منزلة هذه المرحلة في المسار التعليمي للتلميذ، فعليها تتأسّس وتنبني أهمّ القدرات الأساسية المستوجبة لمواصلة التعلّم. يبدو من خلال التقييمات المعتمدة، انطباعية كانت أو موضوعية، إشارات واضحة إلى تدني مستوى خريجي المدرسة الابتدائية. فمن تقييمات عامّة الناس، عبارات ك«المستوى طاح»، «ما يعرفوش يكتبو»، «ما يطالعوش».. أ و تقييمات المدرسين: «تلميذ في بداية السنة السابعة لا يعرف يكتب اسمه»، «تلميذ في مستوى السنة الخامسة لا يستطيع حلّ مسألة بسيطة».. ومن الكلمات المتداولة «يا حسرة على مستوى قبل». أما التقييمات الموضوعية فللأسف، وبالرغم من أن القانون التوجيهي للتربية والتعليم 2002 ينصّ في الفصل 58 على أنه: «تخضع كافة مكونات التعليم المدرسي للتقييم الدوري والمنتظم. ويهدف التقييم إلى القيس الموضوعي لمردود التعليم المدرسي والمؤسسات الراجعة إليه بالنظر وأداء العاملين بها ومكتسبات التلاميذ، بغية إدخال الإصلاحات والتعديلات اللازمة لضمان تحقيق الأهداف المرسومة». وكذلك في الفصل 60 من نفس القانون الذي يؤكد على أنه: «تنظم دوريا تقييمات وطنية وتشمل عينات من التلاميذ من مستويات دراسية مختلفة. وتهدف هذه التقييمات إلى التثبت من مدى بلوغ الأهداف المرسومة من حيث نوعية التعلمات الحاصلة وقيمة مكتسبات التلاميذ». إلا أننا نلاحظ غيابا شبه تامّ لمحطات تقييمية في مستوى الابتدائي وإن كان هنالك في مرحلة من المراحل تقييم السنة السادسة وفي مرحلة لاحقة الاختبار الجهوي للسنة الرابعة. إضافة إلى افتقاد المنظومة التربوية لأدوات موضوعية لتقييم قدرات أساسية للتعلم كالقراءة أو الكتابة أو الحساب تستند إلى معايير وطنية وتبحث في مدى تحقّق الأهداف المبرمجة وتعطي صورة واضحة حول الواقع التربوي في تونس وتمكّن من الكشف عن الصعوبات الحقيقية والعمل على وضع استراتيجيات أصيلة لتجاوزها. أما التقييمات الدولية، فإنها تبرز صعوبات في اللغات وفي العلوم، كما يظهر في تقاريرها الأخيرة: 1) نتائج التقييم الدولي (الاتجاهات في الدراسة العالمية للرياضيات والعلوم TIMSS والتي تشرف عليها المنظمة الدولية للتقييم IEA) والخاص بتلاميذ السنة الرابعة ابتدائي: ٭ التحليل والتفسير وحل المشكلات (0٪). ٭ تملك المعارف الأساسية في الرياضيات والعلوم (62٪). ٭ القدرة على الفهم والتأويل (2٪). ٭ تدني المتوسط التونسي لمستويات الأداء في الرياضيات مقارنة بالمتوسط الدولي. ٭ تدني المتوسط التونسي للأداء في العلوم، مقارنة بالمتوسط الدولي وهو ما عكس تدني المتوسط العام في العلوم، ولكن بصورة أقل حدّة مما كانت عليه الحال في الرياضيات. 2) أما في تقييمات PISA 2009 (قراءة ورياضيات وعلوم) والتي جاءت فيه تونس في المرتبة 56 من 65 فقد سجل ضعفا واضحا لدى أفراد العينة التونسية في كفايات كفهم المقروء والثقافة الرياضية، والثقافة العلمية. هذه التقييمات تجعلنا نبحث في الممارسات التربوية المعتمدة في المرحلة السابقة، ونظرا لضيق المجال فإننا سنقتصر على تساؤلات في علاقة بممارسات مورست في محطات هامة من تاريخ المدرسة الابتدائية: ٭ 1995 1996: لماذا اختيار المقاربة بالكفايات؟ ٭ 1999 2000: لماذا التخلي عن الامتحان الجهوي للسنة السادسة، ما يسمى ب«السيزيام»؟ ٭ 2000 2001: لماذا التعميم السريع للمقاربة بالكفايات؟ 2000 2001: لماذا المذكرة المنظمة للتكوين خارج أوقات العمل في مرحلة تعميم المقاربة بالكفايات؟ ٭ 2006 2007: لماذا اعتمد امتحان السنة الرابعة ولماذا تمّ التخلّي عنه هذه السنة؟ ٭ 2009: لماذا يتمّ الدعوة إلى القيام باستشارة واسعة تمس كل المعلمين هدفها إبداء الرأي في التقييم بالتعليم الابتدائي، دون التطرق إلى مكونات أخرى؟ ٭ 2010 2011: لماذا توضع مشاريع رئاسية مترجمة في شكل «المخطط المتحرك Plan mobile». (2010 2014) (جودة مكتسبات المتعلمين، اللغات، إدماج التكنولوجيات الحديثة للمعلومات والاتصال، جودة المؤسسات التربوية وتطوير مردودها) والحال أن مشاريع تربوية وطنية مبرمجة (المقاربة بالكفايات، المدارس ذات الأولوية، إدماج حاملي الإعاقة، الأقسام التحضيرية، إدماج ت.م.ا)؟ ٭ 2010 2011: لماذا نعود إلى اعتماد المعدّلات ودفتر المراسلة؟ هل اعتمدت تقييمات موضوعية لتشريع القيام بهذه التدخلات؟ إن ما يمكن ملاحظته هو اتسام هذه الممارسات بالارتجالية وأحادية القرار (تغييب للأطراف الاجتماعية والجمعيات المختصة والأخطر خبراء الوزارة: المتفقدون، الذين تتم دعوتهم لتشريع قرارات تم اتخاذها سابقا) خدمة لمصالح سياسية وتبييض واجهة النظام السابق بملامسة قضايا تمس أغلب الناس: التربية، التي تعتبر شأن الجميع. فنتج عن هذا الارتجال: إقصاء لتلاميذ المناطق الداخلية والتلاميذ الذين يعانون من صعوبات وذوي الاحتياجات الخصوصية (رغم أنه قد سوّقت برامج ومشاريع أثرها محدود على أرض الواقع) وما انجر عنه ضعف فادح في النتائج، وصرنا نعيش أزمة ثقة بين مختلف الأطراف المتدخلة في العملية التربوية وصلت إلى حدّ اللامبالاة. ٭ فكيف يمكننا أن نبنّي منظومة تربوية محقّقة لأهداف ثورة 14 جانفي 2011؟ ٭ كيف يمكن أن نضمن بناء منظومة تربوية وطنية مستقلة لا تسمح بتغيير يستجيب لأهواء الأفراد أو المجموعات أو الأحزاب؟ ٭ كيف يمكن أن يؤدي كل مدرس مهامه في ظروف تضمن حق كل تلميذ في تعليم جيّد؟ وبما أن التربية هي شأن وطني، فإنه لا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال تخمينات أو آراء فردية حتى وإن ارتكزت على معطيات موضوعية التي تبقى مبتورة ما لم تدرج ضمن تقييم شامل ونسقيّ للمنظومة يأخذ بعين الاعتبار مختلف مكوّناتها وطرق اشتغالها. وفي الانتظار نقترح ما يلي: بالنسبة لمهام وزارة حكومة تصريف الأعمال: ٭ معالجة ملفات في علاقة بالمظالم والتجاوزات، وتطهير المنظومة من رموز الفساد، والفساد هنا ليس مالي فقط والذي اعتبره من مهام السلطات القضائية (خاصة ما شاع حول الرشاوى والعلاقة بمدرسة قرطاج الدولية)، بل بمساءلة كل من تورّط في وضع خيارات تسبّبت في انحدار مردود المدرسة التونسية. ٭ ضمان الاشتغال السليم للمنظومة التربوية باعتماد الاستراتيجية التي وضعت سابقا وباستشارة أهل الميدان وتجنّب كل تدخل في جوهرها وخاصة تلك التدخلات القابلة للتسويق إعلاميا والتي عانت منها سابقا المدرسة التونسية. ٭ ضمان حياد المدرسة يجعلها بعيدة عن كل تدخل أو توظيف سياسي لها. ٭ فتح حوار وطني بين كل الأطراف حول مدرسة ما بعد الثورة، كما دعت إلى ذلك أطراف من المجتمع المدني ومختصون. ٭ الإعداد لتقييم موضوعي لمختلف مكونات المنظومة التربوية التونسية. والمجال مفتوح في هذه الفترة للباحثين للقيام بدراسات موضوعية تعكس الواقع التربوي إضافة إلى إعداد أدوات تقييم تعطي صورة عن القدرات الأساسية للتلاميذ. في مستوى المدارس، نعتبر أن ثورة 14 جانفي قد فتحت آفاقا أمام كل المعنيين بالشأن التربوي للإبداع وتصوّر حلول محلية والتفكير في سبل لتجاوز صعوبات. ويمكن أن يتم في إطار مجالس مدارس على غرار المجالس الثورية المحلية والجهوية، تبعث وتنتخب من قبل الأطراف المتدخلة في المدرسة فتعمل على المحافظة على الثورة ونشر مبادئها والتفكير في المدرسة بعد الثورة مع اقتراح حلول وتصورات تكون قاعدة عمل يتم العود إليها عند بناء مدرسة ما بعد الثورة، وهنا بإمكان الزملاء المتفقدين والجمعيات والباحثين، تحمّل مسؤولياتهم التاريخية والانخراط في هذا التمشي الثوري بتأطير مقترحات المدرسين وهيكلتها.