تكتسي مسألة عدم الإفلات من العقاب أهمية بالغة لارتباطها بما تعيشه تونس من تحول سياسي تاريخي وجوهري. ان الفترة الإنتقالية الحالية يريدها جميع التونسيون سلمية حضارية بحيث ترتسم في تاريخ الحضارة الإنسانية كنموذج من أروع نماذج الثورات التي عرفتها البشرية عبر العصور. في هذا الإطار تطرح هذه المسألة كآلية من آليات التحول الديمقراطي، بل أن البعض يعتبرها العمود الفقري للتحول الديمقراطي، فبعد الإطاحة بالنظام السياسي المسؤول عن الإنتهاكات الفادحة لحقوق الإنسان والحقوق الأساسية، يجب اتخاذ عدة إجراءات بصفة ملحة: - تنقيح القوانين القمعية. – تعويض وجبر الأضرار للضحايا. – محاسبة ومعاقبة المسؤولين عن الإنتهاكات. فمسألة العدالة تعتبر حيوية بالنسبة للدولة التي تطمح إلى إرساء نظام ديمقراطي بعد عهد الدكتاتورية، وذلك يقتضي معاقبة الجرائم المرتكبة في الفترة السابقة ويقتضي أيضا التعويض للضحايا. لقد مر النضال من أجل عدم الإفلات من العقاب بمراحل عدة بدءا بتجند المنظمات غير الحكومية والمدافعين عن حقوق الإنسان والحقوقيين والحركات الديمقراطية في السبعينات من أجل المطالبة بالعفو عن المساجين السياسيين، مرورا بما شهده العالم في أواخر الثمانينات من عدة تحولات ديمقراطية، وإبرام اتفاقيات سلام أنهت و أوقفت النزاعات المسلحة في بعض البلدان، في هذه المرحلة طرحت ظاهرة الإفلات من العقاب بشكل جدي ومحوري، من زاوية البحث عن معادلة بين منطق نسيان ماض أليم ومظلم، وبين منطق العدالة التي يطالب بها دوما ضحايا هذا الماضي. وانطلاقا من المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان المنعقد في فينا سنة 1993 تواجد توافق مهم حول ضرورة مقاومة الإفلات من العقاب، وكذلك دراسة جميع جوانب هذه الظاهرة التي تتعارض مع مبدأ احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية. إن ما توصلت إليه لجنة حقوق الإنسان بمنظمة الأممالمتحدة يؤكد أهمية المسألة ضرورة أن « الإفلات من العقاب يشجع تكرار الجرائم، في حين أن التعويض عن الأضرار المعنوية والمادية يجب أن يشكل حقا لا جدال فيه للمتضررين من انتهاكات الحقوق وذويهم كذلك.....إن معاقبة المجرمين من شأنها أن تجعل من علوية القانون نموذجا يسود العلاقات الاجتماعية وكذلك ترسخ في الذاكرة الجمعية الشعبية تجريم الإنتهاكات المرتكبة من الدولة ومعاقبة المسؤولين عنها كل ذلك من أجل تفادي حصولها مستقبلا «. ( لجنة حقوق الإنسان – سنة 1992). مفهوم الإفلات من العقاب : يعرف مصطلح الإفلات من العقاب في المعجم الفرنسي «Le petit Larousse» : «Fait de ne pas risquer d'être puni, sanctionné ». وتقدم منظمة العفو الدولية تعريفا لغويا لهذا المصطلح يتمثل ببساطة في «غياب العقاب» وفي تعريف أوسع يحيل إلى عدة جرائم يفلت مرتكبوها من العدالة أو لا يحاسبون بجدية على أفعالهم. ويمكن تعريف الإفلات من العقاب IMPUNITE على أنه «الغياب القانوني أو الفعلي لتحميل المسؤولية الجزائية لمرتكبي الخروقات والإعتداءات على حقوق الإنسان، وكذلك مسؤوليتهم المدنية والإدارية ... بحيث لا يتعرضون لأي بحث أو تحقيق يرمي لإتهامهم وإيقافهم ومحاكمتهم ومن ثم إدانتهم في صورة ثبوت جرائمهم، وتسليط العقوبات عليهم وما يتبع ذلك من تعويض المتضررين من جرائمهم». يفرق هذا التعريف بين الإفلات القانوني والإفلات الفعلي من العقاب، فالإفلات القانوني هو المؤسس بقوانين والغاية منه حماية بعض أشخاص أو مجموعات أشخاص من كل تحقيق أو تتبع قضائي أو عقاب لأفعال إجرامية قاموا بها سابقا وذلك بغاية وباسم المصالحة الوطنية أو من أجل عدم النبش في الماضي وخشية فتح جراح قديمة من شأنها عرقلة التحول الديمقراطي. أما الإفلات الفعلي فهو يعود إلى ضعف أو فساد المنظومة القضائية، أو لتواصل بقاء النفوذ الأمني ومحافظة البيروقراطية على مواقعها في الإدارة، أو بسبب غياب الإرادة لدى النظام أو الشعب لمواجهة الماضي. المدارس المتعارفة للتصدي للإفلات من العقاب: إن موضوع الإفلات من العقاب يطرح في خضم الإنتقال الديمقراطي، لدى المجتمعات التي تحررت لتوها من النظام القمعي أو الديكتاتورية العسكرية. وتقوم الحكومات الإنتقالية باتخاذ بعض التدابير والإجراءات لإلقاء الضوء على الماضي بغاية السماح للمجتمع الجديد بالقطع مع هذا الماضي، لتضميد الجراح وللتمهيد لقبول فكرة العفو ولما لا النسيان.