من هنا برزت 3 مدارس واتجاهات: الأولى : تدعو إلى تجاوز ثقل الماضي بإعلان عفو عام بما في ذلك العفو على كل من عبث بحقوق الإنسان أو ارتكب فظاعات وتجنيبهم المحاكمات والعقاب وتمكينهم من الإفلات من العقاب. إن هذا الخيار يترتب عنه حتما إعادة إنتاج الإنتهاكات لحقوق الإنسان إلى ما لا نهاية، فإذا لم يعاقب مقترفو هذه الجرائم وإذا لم تفكك الأجهزة التي كانت تمكنهم من ذلك ، فلا شيء يمنعهم من تكرارها. ولكن هذا الخيار الذي لا يقبله المدافعون والمناضلون عن ومن أجل حقوق الإنسان، يجد تبريره الوحيد من الخشية من رد فعل قوى الردة وممن لهم مصلحة في قبر الماضي دون نبش. حصل ذلك في الأرجنتين مثلا بعد الشروع في محاكمة بعض جنرالات الجيش إلا أن هذا المسار توقف لوجود تهديد حقيقي وجدي على الديمقراطية الفتية. إن المسألة في النهاية مرتبطة بموازين قوى. الثانية : وهي مناقضة تماما للأولى ولظاهرة الإفلات من العقاب، وهي تطالب بتتبع ومعاقبة كل من كان مسؤولا عن الإعتداءات السافرة على الحقوق والحريات الأساسية. هذا الاتجاه كان ثمرة لمجهودات ونضالات المجتمع المدني العالمي الذي بفضله نشأت جبهة ضد ظاهرة الإفلات من العقاب، كان عزمها قويا على رفض العفو، لأنها كانت تعتبر أنه من غير المعقول القطع مع الماضي وطي صفحته بمقولة بناء المستقبل. إن الماضي حاضر هنا بكل ما راكمه من أوجاع وجراح وشهداء، لا يمكن طيه هكذا، ولبناء المستقبل لابد من تصفية الماضي بالكشف عن الحقيقة وبالتعويض وبالمحاسبة. إن المدافعين عن هذا التوجه ينتظرون من الحكومة الجديدة الديمقراطية أن : 1/ تضع مؤسسات تلقي الضوء على الماضي وتعمل على اتخاذ إجراءات في اتجاه المحاسبة والتعويض2/ تجريم الأفعال والتجاوزات الحاصلة 3/ تقديم المسؤولين للقضاء 4/ التعويض للضحايا والمتضررين. إنهم يطالبون باحترام القانون وتحقيق العدالة الآن. الثالثة : تحاول التوفيق بين المدرستين السابقتين : تلبية مطالب ورغبات المنادين بالعدالة لكن في حدود مرسومة بدعوى المحافظة على الإستقرار السياسي، فهي من ناحية تسعى لضمان المصالحة الوطنية ومن ناحية أخرى لحماية الديمقراطيات الصاعدة من القوى المعادية للديمقراطية. الأسس التي يقوم عليها مبدأ عدم الإفلات من العقاب: إن هذا المبدأ يرتكز على ثلاث أسس مجتمعة وهي: 1/ الحق في معرفة الحقيقة : والمقصود بها حق الضحية أو ذويه بصورة شخصية في معرفة ما وقع له، وحق المجتمع في معرفة الحقيقة باعتبارها تمثل جزء من تاريخ البلاد. 2/ الحق في العدالة : لكل ضحية الحق في المطالبة بمحاكمة المسؤول أو المسؤولين عن الانتهاكات والجرائم. هذا الحق يعزز ثقافة علوية القانون التي تساعد على نشر ثقافة دولة القانون وتيسر عملية التحول الديمقراطي. 3/ الحق في جبر الضرر والتعويض: ويشمل هذا الحق أ/ إجراءات فردية: - إرجاع للوضعية السابقة – التعويض عن الضررين المادي والمعنوي (ضياع الفرص – المس بالكرامة – التكفل بالتأهيل النفسي والبدني للضحايا ). ب/ إجراءات ذات طبيعة عامة : الاعتراف العلني والرسمي بمسؤولية الدولة، وكذلك الإلتزام برد الإعتبار للضحايا في كرامتهم، وأيضا اتخاذ مبادرات رمزية في إطار رد الإعتبار من ذلك إطلاق أسماء الضحايا والشهداء على الشوارع والساحات العمومية. نتائج نشر ثقافة عدم الإفلات من العقاب: 1/ تفادي تكرار الإنتهاكات: وذلك بتفكيك الأجهزة التابعة للدولة المسؤولة عن الإنتهاكات. وإلغاء القوانين والتشريعات التي بموجبها ارتكبت الإنتهاكات وتغييرها بتشريعات تؤسس لنمط حكم ديمقراطي. وإزاحة كبار المسؤولين المتورطين في ارتكاب الإنتهاكات. 2/ حفظ الذاكرة: إن معرفة الشعب لتاريخ اضطهاده هو جزء من تراثه الذي يجب صيانته. والغاية من ذلك حفظ الذاكرة الجماعية من ناحية ومن ناحية أخرى عدم ترك أي فرصة لظهور أطروحات تحرف الواقع أو تبرره أو تنفيه. الآليات المعتمدة لتكريس مبدأ عدم الإفلات من العقاب: إن لجان الحقيقة ولجان التقصي اتخذت تسميات عديدة في مختلف التجارب الحاصلة سواء في بلدان أمريكا اللاتينية على غرار الأرجنتين أو بلدان أوروبا الشرقية غلى غرار صربيا أو البلدان الإفريقية على غرار جنوب إفريقيا أو رواندا أو نيجيريا أو المغرب، و هي عبارة عن هيئات مستقلة غير قضائية عادة ما يرتبط إحداثها بفترة انتقالية تشهدها الدولة، ومعترف بها من طرف هذه الأخيرة أو تكون هي التي أنشأتها. وتكون مهامها مرتكزة على دراسة وفحص ملفات التجاوزات والإنتهاكات الحاصلة لحقوق الإنسان في الماضي غايتها في ذلك كشف الحقيقة. وكذلك هو الشأن بالنسبة لمسائل الفساد السياسي والمالي. وعادة ما تنتهي أعمالها – المحددة في المدة غالبا – بتقرير ختامي يتضمن ما توصلت إليه من حقائق مع جملة من الخلاصات والتوصيات التي من شأنها إسماع أصوات الضحايا وكذلك توصيات بتوخي آليات لمنع وتجاوز ارتكاب هذه الممارسات في المستقبل. والسؤال المطروح في هذا الباب: لماذا لا يتكفل القضاء بهذا الدور؟ وهل أن ما تقوم به لجان الحقيقة هو اعتداء على اختصاص القضاء وتهميش لدوره؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي التفريق بين العدالة الانتقالية و العدالة الجنائية، فالأولى أي العدالة الإنتقالية عادة ما ترتبط بمرحلة حاسمة وهي آلية لتأمين الإنتقال من مرحلة القمع والشمولية والاستبداد إلى مرحلة الديمقراطية، وهي وسيلة كما بينا سابقا لرأب الصدع وتوحيد المجتمع ومنع تكرار الممارسات القمعية في المستقبل، أما الثانية فهي العدالة التقليدية غير المرتبطة بأي حدث فهي دائمة، والمتجسدة في القضاء. هذا القضاء الذي أنهكه النظام الإستبدادي واعتدى على مقومات استقلاليته، وهو في هذه المرحلة الإنتقالية بصدد استعادة أنفاسه، والإستماتة من أجل بناء منظومة قضائية مستقلة تكون من جهة داعما للتحول الديمقراطي ومن جهة أخرى وسيلة جوهرية لتحققه. من هذا المنظور فان دور لجان الحقيقة ودور القضاء ولئن يبدوان متداخلين، فان هذا التداخل لا يعني التعارض أو الإعتداء على الإختصاص وإنما يعني التكامل لغايات سامية وهي كشف الحقيقة بالنسبة للجان وإقامة العدل وإرجاع الثقة بالعدالة بالنسبة للقضاء من خلال ضمان عدم الإفلات من العقاب. إن لجان الحقيقة لا تصدر أحكاما، وليست لها سلطة التحقيق، ولئن يمكنها أن تستعمل إجراءات البحث والتفتيش المتعارفة لدى التحقيق، فذلك يتم وجوبا بالتنسيق الكامل والتناغم والتعاون المفترضين مع القضاء. فالهدف واحد والوسائل يجب أن تؤدي كلها الى نشر ثقافة عدم الإفلات من العقاب، ومن ثم علوية القانون وتطبيق العدالة مهما كان الطرف المعني. خلاصة القول إن السلم والديمقراطية لا يمكن أن يتحققا ويتطورا إلا في إطار دولة تطبق القانون...العدالة تطبق فيها بلا تمييز ولا استثناء....حينها يمكن أن نتحدث عن دولة القانون والمؤسسات كواقع ملموس معاش لا كشعار ديماغوجي.