بقلم: وليد العربي مساعد في القانون بجامعة قرطاج لم أستغرب كما استغربوا...، لم استغرب لأن الشيء من مأتاه لا يستغرب... لم أستغرب حين قرأت الردود التي صدرت عن بعض القضاة على المقال الذي نشر «بجريدة الشروق» في عدديها الصادرين بتاريخ 02 و 03 مارس 2011 والذي يحمل عنوان «كان أولى بالقضاة أن يطلبوا الصفح من الشعب التونسي». وقد صدرت هذه الردود بالخصوص عن المكتب التنفيذي لجمعية القضاة التونسيين وعن القضاة السيدة نادية بن خليفة والسادة حامد المزوغي وصلاح الشيحاوي وسليم خميري وعن مستشار الدائرة الجنائية بمحكمة الإستئناف بسوسة الذي سيكون لي معه كلام آخر في مقال مستقل. وقد اخترت هذا التوقيت بالذات (يوم الخميس 17 مارس 2011) للإجابة عمّا جاء في تلك الردود لأن محتواها قد بلغ في ظنّي نقطة الذروة كما يقول، لنا المختصون في «طرق البحث النوعية» حيث أنها أصبحت تكرّر نفسها وبات من الواضح أن أصحاب المقالات قد استنفذوا كل حججهم. تتمحور هذه الردود حول النقاط التالية: سبّ وشتم لشخصي وتشكيك في نيّتي وفي انتمائي واستنكار لأسلوب التعميم الذي اعتمدته وتأكيد على وجود عدد كبير من القضاة الشرفاء والنزهاء الذين قدموا تضحيات جسيمة خدمة للقضاة وإرضاء لله ولضمائرهم وأخيرا وبالخصوص شجب وإدانة لما يقولون إني قمت به من دعوة لحلّ السلطة القضائية. والقاضي الوحيد الذي خاض في الأصل هو السيد صلاح الشيحاوي. في الثقافة التقليدية البالية، لا ينظر إلى الإنسان على أنه فرد حرّ بل ينظر إليه على أنه عضو في مجموعة أي أنه عضو من أعضاء الجسد، يؤدي الوظيفة التي عهدت إليه بحكم طبيعة الأشياء... وإذا نطق هذا الفرد بكلمة حرّة أي إذا تجاسر على الخروج عن القطيع، يعتبرونه عضوا فاسدا وجب التخلص منه، ويبحثون له عن نسب وضيع ينسبونه إليه وقد يعدّونه لقيطا وقد يلحقونه بسلالة القردة وقد يعتبرون أن «وراءه أطرافا مشبوهة» وأن أياد خفية معادلة تحركه دون إرادة منه وقد يقولون إنه يخدم مصالح أجنبية أو إنه متحالف مع الصهيونية العالمية أو مع تنظيم صليبي وقد يقولون إن به جنّة أو أن شيطانا يوسوس في صدره... وهكذا تتعدّد الوسائل ولكن الغاية واحدة: نفي الحرية عن ذاك الذي نطق بكلمة حرة أزعجت المجموعة وهزت أركانها... لا، يا سيداتي وسادتي، فأنا أولا إنسان أي حرّ وثانيا أنا إنسان حداثي وعلماني ومقتضى الحداثة، في اعتقادي، هي المحاولة الدائمة والمستمرة واليومية للتحرّر من قيود وهيمنة الماضي والموروث من سلطة المجموعة والانتماءات العائلية والعشائرية والقبلية والجهوية والقطاعية والمهنية وغيرها من شتى أشكال الانتماء التي تحاول ضبط وتقييد سلوك الفرد والتي تجعل الهوية الجماعية تسبق وجود الفرد وتحدّد ماهيته. لا، يا حضرات القضاة، أنا لست من أصحاب النفوس المريضة ولا الأنفس الخبيثة ولست من قصيري النظر وإن كنت فعلا كذلك من الناحية الفيزيولوجية، ولست بوق دعاية لأي كان ولا وجود لأياد خفية تحركني وتعبث بإرادتي وليست لي رغبة في تصفية حسابات شخصية فأنا لم أدخل مقرات بعض المحاكم سوى مرات معدودات ولم تكن لي يوما قضية أمام القضاء. وبالخصوص أنا لست حقيرا من بني الخسيسة ومن العيب أن يصدر هذا النعت عن قاض فوالدتي متوفاة ولا أرى لها دخلا في ما كتبت. وبإمكاني أن أنعت هذا القاضي «الجليل» بأبشع النعوت وبإمكاني أن أصفه بأشنع الصفات وذلك بصفة مجانية كما فعل هو ولكني لن أفعل لأن ما قاله في شأني كاف لإقامة الدليل على مستوى بعض القضاة. ثم إنني لم أنخرط في «حملة ولا في محاولة يائسة للتشكيك في القضاة أو التشهير بهم أو المس من اعتبارهم أو استهدافهم» وغيرها من العبارات التي استعملت لتحليل الخلفيات التي دفعتني لكتابة ذلك المقال. فأنا لم أنخرط في أية حملة وأنا كما قلت، إنسان حرّ وكل تلك العبارات التي استعملت ليست سوى أوهام معششة في «عقول» أو في «نفوس» أصحابها. ولم تكن لي أية خلفيات وراء ما كتبت فلا تبحثوا يا سادتي ويا سيداتي، في نيّتي ولا تحاولوا سبر أغوار شخصيتي أو نفسيتي، وكل من يحاول فعل ذلك سيتوه في جبال وغابات وأودية وصحاري وسماوات بلا بداية ولا نهاية... فبيننا كلام وقول، فلا تتجاوزوا حدود هذا الكلام والقول! ومن ناحية أخرى،لجأ بعض من ردّ على مقالي إلى صفتي كجامعي ليبدي استغرابه من قولي ولإحراجي. وأنا أقول لهم إن صفتي كإنسان تسبق صفتي كمواطن ثم صفتي كجامعي متخصص في القانون. فأنا عندما كتبت ذلك المقال قدمت إنسانيتي على مواطنتي ثم على صفتي المهنية. في أواخر الجزء الثاني من ذلك المقال، تساءلت ما الذي يمنعنا من المطالبة بحل السلطة القضائية كإحدى السلطات المكونة للدولة خاصة أن جزءا هاما من الرأي العام كان يطالب آنذاك بإقالة الحكومة وبحل البرلمان. وأجبت عن ذلك السؤال بأنه لا شيء يمنعنا من تلك المطالبة سوى كثير من الحياء وقليل من الخوف. وفي الحياء حب وتقدير واحترام والحياء على منزلة من الخوف وأفضل منه وأرفع درجات منه. ولم أذهب إلى «إهدار دماء معشر القضاة» كما ادّعت ذلك القاضية نادية بن خليفة. فإهدار دماء الناس مهما كانت أفعالهم، ومهما كانت انتماءاتهم، ليس في عقيدتي ولكني في المقابل، أتساءل أبهذه الطريقة تفصل القاضية الفاضلة النزاعات التي تطرح على أنظارها؟ هل تنسب أقوالا للمدعي أو للمدعى عليه أو للشاكي أو للمتهم أو للنيابة العمومية أو للشاهد... ثم تخلص إلى نتائج هي محض وهم؟ أتساءل وأمضي...