بقلم: فوزي الهذباوي عضو المكتب السياسي لحزب تونس الخضراء هل يمكن أن تكتب السياسة بغير لغتها فتعتمد البحث والنظر بدل الشعار والدعاية؟ هل يمكن ان تفرط السياسة في كيانها فتؤصل التأمل والابداع بدل التصدي والمواجهة ولو لحين؟ هل يمكن للسياسة ان تستعيد زمن «مقال الطريقة» قبل أن تحتضن زمن «البيان الشيوعي»؟ تبدو هذه الأسئلة مربكة جدا لعقل سياسي رهانه السلطان، لأنها لا تهيئ للنجاعة اللازمة وللمراقبة المطلوبة ولمسك سلطات الفعل والقرار وقد لا تلبي بالاضافة الى ذلك نرجسية السياسي فينا وما تفترضه من بهرج وريادة واستعراض، إنها لا تشبع رغبة لعبة الأنا القائد الخطيب. إنها بالنسبة الى الشائع في خطاب السياسة «رومانسية حالمة» أو جر للسياسة الى مواقع الاخلاق انها تمرد على قواعد اللعبة السياسية التي لا تتحمل الا الترتيبات «الماكيافلية». وهي في المحصلة سياسة متمردة تحمل فكرة أخلاقية لا تبالي بمتطلبات الغايات التي تبرر اعتماد الوسائل، وتدين بالصمت غالبا، وبالفعل غالبا خيانة العقل لصالح الجهاز وخيانة القيم لصالح الوسائل. إن ثورة الشعب التونسي، هي هكذا ثورة بالمعنى الابداعي للحالة، لأنها تمردت على العقل السياسي التقليدي ففاجأته ثم أربكته حتى اضطرته على المسايرة، وزادت الاستحقاقات التي انتهت اليها، متمثلة في هروب الدكتاتور وبداية انهيار الجهاز الدكتاتوري برمته في مفعول أثر الرجة على هذا العقل الذي فقد بوصلة تلازم الذاتي والموضوعي وقيادة الطليعة للشعب ومقارعة القوة بالقوة، فكانت ثورة الكرامة والاعتبار والدم ضد بطش الجهاز وثورة الرمزية المؤثثة بدماء الشهداء ضد قوة السلطة وغطرسة العصابات. لقد هزم الرمز القوة وأطاح الابداع الافتراضي برصاص القناصة فلا غرابة والحال هذه ان ترتبك عقول وأن تعمد القوى السياسية الحية المعنية بقضايا وهموم الشعب الى مسايرة هذه الحالة الثورية والبحث عن موقع لها داخلها المعارضة الوطنية التقدمية كما لا غرابة أن تنتكس عقول وتعتمد قوى الثورة المضادة الى الالتفاف والعودة من البقع السوداء قوى الردّة . ما كل معضلة تحسمها السياسة خاصة إذا تلاشى عقلها، وانهارت قواعد لعبتها، فالرمزية شأن لا تفقه السياسة مفاتيحه ولا تقوى على سبر أغواره وبالتالي لابد من مقاربة أخرى لتمثل ثورة شعبنا وللعمل على تحويلها الى مكاسب فعلية تؤثث حاضرا ومستقبلا الفضاء التشريعي والاجتماعي والبيئي الاقتصادي للعمل السياسي ففيم تتمثل هذه المقاربة وما هي المراجعة الجذرية التي تمليها على العقل السياسي المرتبك؟ لا شك أن مفاهيم الفكر السياسي التقليدي الليبرالي تماما مثل الماركسي لا تقوى على تمثل هذه الحالة الثورية التي هيأت شعبا بدا لنا معبّأ وخاضعا الى شعب حي ومقاوم تمثل قيم المواطنة والحرية بشكل مذهل في لحظة وجيزة من الزمن، إنها بلا شك طاقة كامنة لم ننتبه إليها تحولت الى حالة خلاقة ومبدعة حدسها شاعر الثورة المصرية أحمد فؤاد نجم حين قال: «صحيح الشعوب بنت «كلب» ولئيمة و/ممكن تزيح العروش في ثواني». إن المقاربة الممكنة التي تنشد تمثل الحالة الثورية التي أبدعها الشعب التونسي لا يمكن ان تكون ايديولوجية عقائدية أو حتى سياسية بالمعنى الاجرائي للكلمة وإنما هي بالضرورة ثقافية توفر داخلها مأوى لا غير للسياسي جنبا الى جنب مع الفكري والفني والبيئي والسيوسيولوجي والحقوقي والنفسي والمعلوماتي ولا تمنح أي أفضلية لما هو سياسي وانما تعمل على تأمين حضور كل هذه الابعاد ضمن النسيج الثقافي الذي يجب ان يشكل الأرضية الدنيا التي ترتكز عليها القوى الحية المعنية لضمان نيل استحقاقات ثورة الشعب على جميع الأصعدة يجب ان تكون للقوى السياسية تحديدا الجرأة الكافية على قبول مبدإ الانخراط في العمل الثقافي بكل مكوناته والتحرر من سجن الاختزال الايديولوجي والسياسي في معالجة قضايا واهتمامات وتطلعات الشعب لا تنكرا لاهمية السياسي في الشأن العام وانما تأكيدا على أهمية مراعاة ثراء الفضاء الثقافي وتكامل جميع مكوناته في نحت كيان المواطنة وفي تأصيل الهوية العربية لشعبنا التي غذتها ومازالت تغذيها منارات فلسفية وشعرية وأدبية وفنية وسياسية متعددة المصادر ومتنوعة المرجعيات هكذا اشتغلت المكونات الفاعلة في انجاز الثورة التونسية: من إقدام شاب متعلم صان كرامته حين قاوم مذلة البطالة بقبول العمل كتاجر متجول لبيع الخضر والغلال وصان كرامته مرة أخرى حين أقدم على الاستشهاد رفضا للإهانة والتعسف الى حركة شباب rap «الراب» و«تويتر» «Twitter» الفايس بوك Facebook، الموسيقى البديلة الى انخراط النقابيين والفنانين والشعراء ونشطاء المجتمع السياسي والمدني ومن مطالب انطلقت من الكرامة والمطالبة بالشغل ثم احتضنت حرية الابداع وتحرر الاعلام واستقلال القضاء وحق التظاهر والحق النقابي والحق في تنمية مستدامة وأرض بلا تلوث وانتهت الى اسقاط رأس النظام تجسيدا للمثل التونسي القائل «ما غاب حد» فالتناغم كان رائعا بين مختلف فئات الشعب وقواه الحية من جهة وبين مختلف المكونات الفكرية للنسيج الثقافي من جهة ثانية، لهذا الاعتبار تحديدا لا يجوز الحديث السائد والوصف الذي يحظى بشبه اجماع عن «ثورة عفوية» فالعفوية ليست في حقيقة الامر في الثورة وإنما في أدوات فهمها استنادا الى العقل السياسي التقليدي سجين معادلة الطليعة الايديولوجية الحزبية / الجماهير وسجين احتكار السياسي للحقيقة على غرار ما تحقق في جل الثورات الحديثة والمعاصرة، أفلا تعد العفوية بهذا المعنى قابعة في عقل سياسي ظل سجينا لأدوات تحليله وليس في الحالة الثورية التي أبدعها الشعب التونسي بدفع من كل مكوناته الثقافية؟