تراكم المستحيل التفكير فيه قروناً عديدة خنق الفكر العربي الإسلامي ساحة اللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه واسعة جداً بينما ساحة المفكر فيه أو المسموح التفكير فيه ضيقة جداً آن الأوان للخروج من العصر الايديولوجي والدخول في العصر الابستمولوجي: أي المعرفي الاستكشافي المحض
.أمام كل هذه الانقلابات التي طرأت علي المناخات العقلية لشعوب بأسرها وأمام كل هذا التفكك والانهيار للرأسمالات الرمزية دون استثناء لم يعد الشيء الملح والعاجل ان ننزع أغلفة الأسطرة عن الوعي الديني والوعي القومي لكل شعب علي حدة كما كان يفعل العالم اللاهوتي الالماني رودلف بولتمان. أو قل انه مهم ولكن هناك أولويات أخري ايضا خصوصا بالنسبة للشعوب الاوروبية. ومعلوم انه نزع الهالات الاسطورية عن الفترة البدائية الاولي للمسيحية وكذلك عن شخصية المسيح لكي تبدو علي حقيقتها التاريخية. وقد فعل ذلك عن طريق أرخنة المعرفة الخاصة بالفكر الديني والممارسات الدينية من طقوس وسواها. وكان ذلك شيئا ايجابيا في وقته لأنه حرر الوعي المسيحي من عقلية الخرافات والمعجزات التي تنتهك قوانين الطبيعة. ولكن نحن بحاجة الي شيء آخر اضافي. لماذا نقول ذلك؟ لان الشعوب الاسلامية من عربية وغير عربية تعيش الآن مأساة تاريخية كبري من كافة النواحي السياسية والاقتصادية والفقر والجوع وفشل التنمية الخ... وبالتالي فلا نريد ان نزعزها اكثر مما هي مزعزعة عن طريق أرخنة عقائدها الاكثر قداسة وحميمية. فهي الشيء الوحيد الباقي لها لكي تستمسك به وتستعصم. والأرخنة هنا تعني نزع القداسة عن العقائد التقليدية الموروثة أبا عن جد منذ مئات السنين. وهي عملية خطرة جدا من الناحية النفسية. فهذه الشعوب وجدت نفسها فجأة وبشكل عنيف في مواجهة الحضارة المادية والحداثة الفكرية للغرب. وهي حضارة أجنبية كليا عليها ولم يتح لها أبدا ان تساهم في بلورتها عن طريق اشتغال الذات علي ذاتها كما حصل للشعوب الغربية او الاوروبية. وبالتالي فلا ينبغي ان نصدم شعوبنا بشكل زائد عن اللزوم. وانما ينبغي ان ندخلها في الحداثة علي دفعات وبشكل تدريجي. ينبغي العلم انه لا الثورة المدعوة عربية اشتراكية للناصرية والبعث، ولا الثورة المدعوة اسلامية في ايران تم التحضير لهما من قبل حركة ضخمة وجبارة للنقد الفلسفي والعلمي كما حصل للثورات الاوروبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر. لم يحصل أي نقد حقيقي للدولة او للعقد الاجتماعي او للقانون او للاخلاق العامة او للتراثات والمؤسسات الدينية عندنا كما فعل فلاسفة التنوير بالنسبة لمؤسساتهم القديمة وتراثاتهم التي كانت سائدة ابان العهد الملكي القديم السابق علي الثورة الفرنسية. عندما كان جمال عبد الناصر يرسل الاخوان المسلمين الي السجون او حتي يشنقهم لم يكن في ذات الوقت يفعل أي شيء لتحديث الوعي الإسلامي او تطويره او تنويره من الداخل. ولهذا السبب فشلت ثورته وعادوا بقوة الي الساحة بعد موته. نفس الشيء يمكن ان نقوله عن بومدين الذي كان يسمح باعادة المجتمع الي الوراء عن طريق تشجيع كل المظاهر الصاخبة والضخمة للتريث الديني والتجليات الاكثر دوغمائية للاسلام بكل طقوسه وشعائره. وكان ينظم المؤتمرات الاسلامية الكبري الخالية من أي تجديد فكري والتي يسيطر عليها الاصوليون من أمثال الشيخ محمد الغزالي وسواه. وبالتالي فإن الجبهة الاسلامية للانقاذ التي ظهرت بعد عشر سنوات فقط ليست الا ثمرة من ثمار بومدين الذي لم يعرف كيف يجدد الفكر الإسلامي او يشجع علي تجديده. بل فعل العكس تماما علي الرغم من انه ما كان ينفك يتحدث عن الثورة والتحديث والتنمية الخ.. ولكنه لم ينتبه الي أهمية الحداثة الفكرية وبخاصة تحديث الفكر الديني. وكان ان حصدنا جبهة الانقاذ.. ثم ان كان قد اندلعت تلك الثورة المدعوة اسلامية في ايران مع كل الموجة الاصولية المرافقة لها والتي سارعت الي تطبيق ما تعتقد انه القانون الآلهي وتجبر الناس علي ممارسة الطقوس والشعائر التقليدية حتي في عرض الشارع. انظر فرض الحجاب بالقوة وبقية الاكراهات والقيود علي النساء والرجال. وراح البعض يزاود علي البعض الآخر في التدين الظاهري والتزمت الحرفي اذا جاز التعبير. و هكذا تم خنق كل فكر حر في المجتمع العربي الإسلامي. وظلت المشاكل المعرفية التي يطرحها علينا التراث الإسلامي الكلي بمنأي عن أي تحليل نقدي او تفحص علمي او تحريات انتربولوجية فلسفية. وهكذا ساد التريث الاعمي المتعصب وخيم علي المجتمعات والعقول. وكان ان حصدنا كل هذه الجحافل الجرارة من جماعات التطرف والاكراه في الدين. ما أريد توضيحه من خلال هذا العرض السريع للامور هو مدي التأخر المريع الذي حصل للفكر العربي الإسلامي قياسا الي الفكر الاوروبي او العالمي ككل. ما أريد اظهاره الي دائرة الضوء لكي يري بالعين المجردة هو مدي تراكم اللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه عندنا علي مدار القرون. كل شيء يمنع التفكير فيه تقريبا لكيلا نجرح هذه الحساسية او تلك او لكيلا نغضب هذا الشيخ الجليل او ذاك. والنتيجة هو اننا لم نعد نستطيع التفكير في أي شيء لا في الدين ولا في السياسة ولا في المشاكل الفعلية المطروحة علينا. كل شيء مسموح التفكير فيه ما عدا الشيء الاساسي الذي ينبغي التفكير فيه!. وهكذا يظل الفكر العربي او الإسلامي يدور علي نفسه ويدور في حلقة مفرغة دون ان يقدم او يؤخر في مسار الامور. ولا ريب في ان الانظمة التي استلمت الحكم بعد الاستقلال ولمدة خمسين او ستين سنة هي المسؤولة عن ذلك. فقد شكلت ايديولوجيا كفاحية ذات شعارات غوغائية سدت الافق والطريق وأفسدت الحياة الثقافية ومنعت انبثاق أي فكر نقدي حر في العالم العربي او الإسلامي ككل. وهكذا تحررنا سياسيا من الاستعمار الخارجي ولكننا لم نتحرر فكريا من الاستعمار الداخلي: أي من التخلف والجهل والأمية والتعصب والفهم الخاطئ للدين والمعتقد. فكان ان انفجرت الحروب الاهلية في كل مكان: من الجزائر الي لبنان الي العراق الي مصر الي السودان الخ. وفي ذات الوقت ماذا فعل الغرب بعد ان أجبر علي انهاء الاستعمار والخروج من بلادنا؟ انه لم يقف مكتوف الايدي كما فعلنا نحن وانما راح ينتج ويبدع ويستكشف. راح ينخرط منذ الستينيات في البحث عن تجليات مبتكرة او صياغات جديدة للحداثة. راح هذا الاستعمار الذي ما ننفك نلعنه ونسبه ونلقي عله بمسؤولية كل مشاكلنا وتخلفنا يتجاوز نفسه لكي يبدع اكثر فاكثر. لا ريب في انه مدان كاستعمار ومسؤول عن أمراض كثيرة عندنا ولكنه ليس علة كل شيء.. وراحت أوروبا تنخرط في المشروع التحريري الكبير لبناء الاتحاد الاوروبي الذي يعتبر اكبر معجزة سياسية في هذا العصر. وفي تلك الفترة ماذا فعلنا نخن العرب او المسلمين؟ هل انخرطنا في مشروع تحريري للشرط البشري؟ معاذ الله. هل انخرطنا في مشروع مستقبلي ديناميكي لدمج مجتمعاتنا في الحركة التاريخية الكبري لتحرير كل الوضع الانساني؟ أبدا لا. رحنا نتجه بأنظارنا اما في جهة موسكو وشطحاتها الشيوعية الدموية الحالمة بوهم الانتصار النهائي للبروليتاريا، واما في جهة مكة والمدينة لاعادة النموذج الآلهي القديم للخلاص والنجاة في الدار الآخرة. لا ريب في انه يحق للمسلم بل وينبغي عليه ان يظل متعلقا، علي الاقل روحيا، بنموذج مكة والمدينة ولكن بشكل ابداعي متجدد لا تقليدي تكراري كسول. بدلا من ذلك رحنا نتعلق بالأصالة والقدامة والتحجر الفكري في التعليم والسلوك وندير ظهرنا للحداثة الديناميكية المبدعة. ورحنا نتعلق بالسلف الصالح ونلبس القميص متوهمين اننا بذلك سنقضي علي الغرب الكافر وتأثيراته الهدامة وغزوه الفكري الشرير.. راحت أنظمة ما بعد الاستقلال وطيلة اربعين سنة من حكمها تمنع تدريس الفلسفة والعلوم الانسانية وتشتبه بها وفي ذات الوقت راحت تشجع التعليم التقليدي علي طريقة القرون الوسطي. وراحوا يضيقون علي علم التاريخ ويشتبهون بالانتربولوجيا باعتبار انها علم كولونيالي استعماري! وكان ان انتصرت الهلوسات الخيالية المضخمة عن الماضي المجيد والعصر الذهبي وقضينا علي الفكر النقدي المستقبلي. وأدي كل ذلك الي انتعاش الفكر الماضوي السلفي. وراحوا يستخدمون الاسلام كمجرد أداة لتعبئة الجماهير وتجييشها من اجل التغطية علي المشاكل الحقيقية التي نعاني منها ثم من اجل طمس الحقائق العنيدة للتاريخ وعلم الاجتماع والمعرفة العلمية المحررة. سوف نحاول علي مدار هذا الكتاب ان ندرس بجدية الحالة التاريخية الناتجة عن المتغيرات التي طرأت علي المجتمعات العربية والاسلامية طيلة الثلاثين سنة الماضية. وسوف نتوقف عند كل المشاكل التي حجبتها ايديولوجيا الكفاح الغوغائية ورمتها في دائرة اللامفكر فيه او المستحيل التفكير فيه. وكل ذلك بأمل ان نستطيع فتح حقبة تاريخية جديدة في المسار الجاري حاليا. نقصد بذلك المرحلة التي يسود فيها الفكر النقدي لا الفكر الكفاحي او الجهادي المستعر والموجه دائما ضد الخارج والمضحي دائما بحقوق الروح والفكر لحساب التعبئة والتجييش الجماهيري. اننا نهدف الي اعادة الاعتبار للفكر النقدي الحر في الساحة العربية والاسلامية بعد ان هجرها زمنا طويلا. ونهدف الي ممارسته وترسيخه داخل الحداثة العامة التي هي ايضا في حالة طفرة نوعية قوية جدا. فالحداثة الغربية هي ايضا في حالة مراجعة شاملة وتعيش منعطفا تاريخيا. ومن خلال كل ذلك نأمل في ان نتمكن من اغناء المناقشات الجارية حول التنوير حاليا في اكثر البيئات الفلسفية الغربية طليعية. اننا نأمل في اغنائها عن طريق الخبرات والتعاليم المستمدة من المسار التاريخي الخاص بالاسلام كدين كبير وككتلة متنوعة من الثقافات العالمية ولكن ايضا كقوة استنهاض للشعوب ضد أنظمة الظلم واللامساواة التي تعاني منها كل المجتمعات المعاصرة. وهذه المقاربة النقدية لا تهدف الي التصديق علي الكونية التي تدعيها بشكل تنافسي الاديان الكبري الحية وعقل الأنوار الذي تلاها. وانما تهدف الي بلورة فكر قابل لان يصبح كونيا يوما ما عن طريق استخلاص النتائج والعبر من كل المسارات المتنوعة لمختلف ثقافات العالم ، هذه المسارات التي ما تنفك تدخل في أزمة بسبب التسارع المستمر لتاريخ الوضع البشري. وهذا يعني ان منظورنا انتربولوجي واسع لا ينغلق داخل جدران أي تراث ولا أي ثقافة مهما علا شأنها بما فيها الثقافة الغربية وانما يأخذ بعين الاعتبار كل ثقافات العالم وتراثاته قبل ان يبلور القيم الكونية او القابلة لأن تصبح كونية.