كلما تذكرت اعتصام القصبة الأول والثاني الا وقفزت الى ذاكرتي صورة هي من أقدس الصور وأنبلها، وأرقاها بناء وأعمقها معنى وأجملها بعدا، وأثراها عطاء وأشرفها مرمى، وأقدسها مسعى، وأدقها تنظيما ورسما، وانسقها ألوانا، انها صورة جبح النحل من حيث الكثافة والتنظيم ودقة الحركة وسلامة الوجهة وصلابة التماسك والانضباط نعم كنت أرى القصبة جبحا مباركا، وكنت ولازلت الى الأبد أرى المعتصمين نحلا دؤوب الحركة المتزنة، كل تجني رحيق ازهار الكرامة والحرية والعدالة في ربيع تونس الذي فاح أريجه في كل الدنيا. الكل يبني الشهد، والكل يملؤه عسلا فيه شفاء للوطن من علله المزمنة والكل يحمي الجبح ويرعاه ويؤمن سلامته من «العثة» التي كلما دخلت بيت النحل الا وقضت عليه قضاء تاما. نعم هكذا أرى وعلى هذه الصورة الناصعة أعيش وأقف في كل لحظة وحين لها وأوفيها التبجيل والتقديس والاحترام وللتاريخ أقول لقد بدأت أعيننا ترى في واضحة النهار من شرعوا في اطلاق عنان مداخنهم منظمات وحركات وأحزابا حول ذلك الجبح لحجب الرؤية عن نحله المبارك لافراغه من عسله، ولله في خلقه شؤون، وكل من المدخنين على هذا الجبح المقدس يريد العسل لنفسه دون سواه جنيا وأكلا وثمرة فائدة، ولكن ما هو أخطر وأكثر مضرة هو أن كلنا يعرف تركيبته حيثما وضعته يكون مجلبة للذباب وقبلته وهكذا يبقى السؤال معتصما في عقول كل من له ذرة وعي من يحمي الجبح من «العثة» والعسل من الذباب في الوقت الذي اندلعت فيه ثورة الشعب لتجعل من تونس الحرة بيت نحل نظاما وحركة وثمرة ولا تنتج الا عسلا بكل الأبعاد والمعاني.