تتقاطع وسط «المشهد السياسي» العديد من المصالح وتسعى مختلف الأطراف جاهدة الى أخذ نصيبها من مغانم الثورة. تلك هي نموذجية الفعل السياسي، مهما اختلف الزمان والمكان، فالغاية واحدة لدى كل الفاعلين السياسيين: السعي الى التموقع وكسب الأنصار والدعاية الاعلامية التي تبلغ مرّات درجة الصّخب، مثلما هو الحال في «مشهدنا السياسي» اليوم. وفّر سقوط النظام في تونس فرصة تاريخية للمشهد السياسي في تونس أن يعرف حراكا وتجاذبا وتقاطعا تهتزّ داخله وبين أركان الحواس يمنة ويسرة ووسطا، تطرّفا واعتدالا وما الى ذلك من نمطيّات توصيف هذا التوجّه السياسي أو ذاك. تلك الطفرة السياسية «النادرة» ونتيجة انعدام تجربة عميقة في الاختلاف والتعدّد وقبول الآخر، أفرزت ما يشبه طوفان الاحساسات والمشاعر وفوضى حواس الانسان كلّها. انخراط في منهجية يراها عديدون دافعة أكثر ما هي دافعة الى أصناف مختلفة من الصّدام والتقابل العنيف. إن مشروعية «المصالح السياسية» و«الانتصار الحزبي» بما تفرضه من جدل ونقاش وطروحات متقابلة إن لم تكن على طرفي نقيض في الكثير من الحالات، تلك المشروعية لا يمكنها أن تتحول الى معول للهدم والتشكيك والبحث في النوايا بشكل «متسرّع وهجين» أو أداة لتنميط المشهد السياسي بثنائيات متكلّسة ومُسقطة تنبّئ بغليان فظيع للمشاعر والعواطف الجيّاشة لهذا التيار أو ذاك أو هذه الايديولوجيا أو تلك. فجأة امتلأت أسماعنا بألفاظ منها على سبيل الذكر «أمير المؤمنين» و«النّقاب» و«اللائكية» و«العلمانية» وهي ألفاظ تتجه الى تكريس ثنائيات غريبة داخل المجتمع علّ أوضحها الى حدّ الآن «الكُفر والايمان» و«الحداثة والتخلّف». وتستقطب «ثنائية الكفر والايمان» و«الحداثة والتخلّف» الجانب الأوسع من الفضاء الاعلامي والسياسي منذ 14 جانفي الفارط. ومن المهم في مثل هذه الحالة البيّنة والجليّة والتي تؤشر في حال تواصلها الى انقسام وتشظِّ حقيقي وخطير داخل النسيج المجتمعي، من المهم دراسة وبحث الخيوط التي تترابط فيها إرادات مختلفة لإرباك ذلك النسيج المجتمعي وإلحاق التفرقة والبلبلة والتطاحن وسطه بعيدا عن مها عرفته بلادنا من انتشار لروح التسامح والتضامن والألفة وترابط وتماسك. إن الغائية الحزبية والاستدعاء الفجّ لمختلف الآليات الاعلامية والسياسية والأمنية والاجتماعية والثقافية والتربوية، يجعل منها أي من تلك الغائية الحزبية شيئا رديئا، «يهدم ولا يبني»، يؤخر ولا يقدم، برغم ما قلناه من أن المصالح الحزبية والانتصار الايديولوجي أو الفكري أو القائدي مطلوب لتحقيق أي مشهد سياسي مأمول وهو أمر مشروع، فإن إطلاق العنان ل«فوضى الحواس» دون تفعيل للمنطق العقلاني وتغليب للمصلحة العامة سيكون بابا فاتحا المستقبل على سيناريوهات مفجعة ومؤلمة وخطيرة. سيناريوهات ستطبعها الفوضى والانفلات والتصادم، سيناريوهات لن يكون أحد في منأى عن «نيرانها» وسياطها! حتى أولئك الذين يقفون وراء الصناعة الاعلامية والسياسية ل«فوضى الحواس» وتأجيجها لن يُؤمّنوا على الأرجح مصالحهم الحزبية والايديولوجية التي ستنهدّ هي الأخرى وسط تلك الفوضى، فوضى طغيان العاطفة والإحساس وغياب العقل وتهميش المنطق والمعقول من الأشياء. اهتزّ الشعب بكل فئاته وجهاته ضد مظاهر الظلم والتفاوت في توزيع ثمار الثروة الوطنية وأشكال الاستثراء الفاحش والقمع السياسي والتضييق على الحريات. لم تُطالب ثورة 14 جانفي بتطارح مضامين «الكفر والايمان» و«الحداثة والتخلّف» فتلك مضامين «محسومة» بهويته العربية الاسلامية متفتّح على الحضارات وعلى روح الحداثة، مجتمعها يرفض الانغلاق والتطرّف ويقطع من مرحلة الى أخرى خطوات عملاقة على درب التحديث والتنوير ومواكبة روح العصر. مطالب «الثورة» انحصرت في العدالة الاجتماعية واحترام الحريات وحقوق الانسان وتحقيق العدالة السياسية فمفهوم إلغاء هيمنة الحزب الحاكم سابقا على أجهزة الدولة وفتح الطريق السالكة نحو تعددية حزبية فعلية لا صوريّة، وبمعنى أيضا احترام حرية الشعب في الاختيار وتكريس إرادته عبر انتخابات نزيهة وشفافة خالية من كل مظاهر التزوير والتزييف والتلاعب بصناديق الاقتراع. في خضمّ تلك الأحداث والوقائع والمطالب، تُدان «فوضى الحواس» التي تضع النخب والأحزاب والقيادات المدنية والجمعياتية موضع الادانة والاتهام والركوب على مشروعية الثورة المنادية بالتغيير والاصلاح الجذري والقطع مع الماضي وفتح الطريق لتحقيق العدالة المنشودة بوجوهها المختلفة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية. ولأن مقادير الوعي والتحاليل والفهم متزايدة لدى مختلف فئات «الشعب» وخاصة الفئة الشبابية التي أشعلت «الثورة» وهي حاليا تترصّد وترقُب في كل المحطات والقرارات وتتفهّم مختلف «التطاحنات» العقائدية والايديولوجية وتفكّ طلاسم كل «الألاعيب» و«المؤامرات» والتي من بينها «اللائكية» و«النّقاب» و«أمير المؤمنين» و«العروشية» و«القبليّة»، لذلك كلّه لن تمرّر «فوضى الحواس» أجندتها وستقطع «الثورة» خطواتها ثابتة نحو تحقيق أهدافها وغاياتها في فسخ مساوئ الماضي، السياسية والاقتصادية، وفتح البلاد أمام مستقبل برؤية أكثر تفاؤلا بعيدا عن تجاذبات «الحواس» وتجذّرا في مكتسبات المجتمع العقلانية والرصينة.