نعيش هذه الايام على وقع «إثارة» للجدل حول الجهاز القضائي، فالجميع بات يتحدث عن استقلال القضاء باسم السلطة القضائية و«نيابة» عنها، ومع هذه «الإثارة» وجب الاقرار بأن الجهاز القضائي أضحى يمرّ بمفترق طرق لتحديد «خارطة طريق» تحقيق استقلاله فالفترة الحالية تعتبر بمثابة الامتحان الحقيقي بالنسبة الى السادة القضاة لتأكيد تمسكهم باستقلاليتهم بمنأى عما يحدث من تجاذبات سياسية لأن القضاء يبقى في نهاية الأمر محايدا أمام «مكوّنات اللعبة السياسية» حتى لا يقع توظيفه من مختلف هذه المكوّنات. وحري بنا في بداية حديثنا التأكيد على أن القضاء هو الدعامة الوحيدة تقريبا لإرساء دولة القانون والمؤسسات وحماية حريات الأفراد وصون أعراضهم وحرماتهم الجسدية والمالية، وعليه فإنه ودون قضاء سائر على هذا المنوال فإن المؤسسات ستضل هذا الطريق. استهداف غير بريء لكن ما يلفت الانتباه خلال المدة الاخيرة تعرض الجهاز القضائي واستهدافه بعديد التجاوزات والتي وصلت الى حد الاعتداء على الحرمة الجسدية للقضاة على غرار ما حصل في قفصة، والأخطر أن مثل هذه التجاوزات من شأنها ان تحبط معنويات السادة القضاة، وأن تؤثر على قراراتهم وأحكامهم وان يصبح القاضي مباشرا بمهامه الخطيرة والجسيمة تحت ضغط الشارع والمتقاضين وهو ما من شأنه المس من استقلاليته. وهنا يطرح تساؤل حول ماهية الفرق اذن، بين الضغوطات التي كانت تمارس على القضاء في عهد الرئيس المخلوع وبين ما هو مسلط على القضاء بعد الثورة؟!! القضاء يحمي الحقوق... لكن من يحميه؟!! إنه من الثابت لنا جميعا ان القضاء ساهر على حماية حقوق الأفراد والجماعة لأنه ووفق ما أشرنا اليه آنفا، هو الدعامة الوحيدة لهذه الحماية. لكن وأمام ما يعيشه من وضع صعب من حقنا ان نتساءل عمّن يحمي جهازنا القضائي؟! الامر هنا موكول بدرجة أولى الى جميع مكونات المجتمع المدني التي يهمها استقلال القضاء من أحزاب ومنظمات وجمعيات حقوقية وغيرها والتي وللأسف ظلت الى حد هذه الساعة في حالة صمت مريب ازاء ما حدث من تجاوزات ولم يصدر منها اي رد فعل تجاه ما يحدث للمؤسسة القضائية، «فغابت» البيانات لا المساندة للجهاز القضائي ولا المستنكرة للاعتداءات التي حصلت والكل ظل مكتوف الأيدي. فهل كان من الحتمي على السادة القضاة ان يستغيثوا حتى «نهبّ» الى نجدتهم وحمايتهم؟!! تعهد بالوقائع ولا بنص الإحالة ولعله من البارز أن أكثر القضاة استهدافا من أطراف متعددة وبطرق مختلفة هم السادة قضاة التحقيق. وحري بنا التذكير بصلاحيات قاضي التحقيق حسب فصول مجلة الاجراءات الجزائية وهي تتعلق أساسا بالبحث في الجنايات التي تحال عليهم من طرف جهاز النيابة العمومية والتي تتطلب من قاضي التحقيق ممارسة صلوحياته بكل استقلالية، باعتبار ان مؤسسة التحقيق تمثل مؤسسة استقرائية مستقلة بذاتها، ومن اختصاصات قاضي التحقيق استنطاق ذوي الشبهة وسماع الشهود وإصدار البطاقات القضائية اللازمة وبطاقات الايداع والافراج عن الموقوفين والحجز وتحرير مأموريات الاختبار ثم اصدار قرارات ختم الابحاث. وكل هذه الصلاحيات منحها المشرّع لقاضي التحقيق لما لها من تأثير وخطورة بالغيْن على الأشخاص. وعليه فإن مؤسسة التحقيق مستقلة عن جهاز النيابة العمومية رغم ان هذه الاخيرة طرف في القضية فهي تحيل أولا كما لها ان تبدي رأيها في جميع مراحل التحقيق كالحق في استئناف قراراته. لكن وجب التأكيد كذلك على ان قرار احالة النيابة العمومية غير ملزم لقاضي التحقيق باعتباره يتعهد بالوقائع والأفعال وليس بنص الاحالة، فهو يبحث في القضية وينتهي الى اصدار قرار مستقلّ. ذكرنا هذه الصلوحيات والاختصاصات الراجعة الى قاضي التحقيق أمام ما تشهد هذه المؤسسة من استهداف وللأسف حتى من بعض رجال القانون، بما من شأنه ان يجعلهم يعملون في ظروف قد تحدّ من استقلاليتهم (هناك من وقف أمام مكاتب قضاة التحقيق). والنصيحة الى هؤلاء هي ان يتركوا قضاة التحقيق يعملون بكل استقلالية وبكل حرية، ودون ممارسة أية ضغوطات عليهم، ومن المؤكد ان نرى منهم ما يسر المجتمع التونسي خاصة ان قضاة التحقيق يتكون من قضاة الرتبتين الثانية والثالثة، وهم يتمتعون بالخبرة والحنكة والكفاءة والدراية كالقدرة على البت في القضايا التي يتعهد بها. وأمام هذا ليس أمامي أفضل تعبير سمعته عن قاضي التحقيق لما قال عنه الجنرال ديغول «إن قاضي التحقيق هو أقوى رجل في الجمهورية»، وذلك لما له من صلاحيات واختصاصات، تخوّل له البحث ودون توان عن الحقيقة للوصول اليها وتأكيدا على ذلك تعهّد قضاة التحقيق بعد ثورة 14 جانفي بأكثر القضايا مساسا بمستقبل البلاد منها المتعلقة بالاستيلاءات على أموال عمومية التي ارتكبت في عهد الرئيس المخلوع وجرائم القتل التي ارتكبت أثناء المظاهرات وجرائم الفساد واستغلال النفوذ وهي جرائم محل أنظار الشعب التونسي الذي يتابعها بكل شغف لتتبع كل من اقترف جرما في حقه، مع بداية ظهور بوادر انفراج من خلال صدور قرارات صارمة ضد رموز النظام السابق، في حق أشخاص كان من شبه المستحيل أن نراهم يمثلون أمام القضاء، وذلك في انتظار ما ستكشف عنه بقية الأبحاث. امتحان حقيقي للاستقلالية كما تجدر الاشارة الى انه وأمام الظرف الدقيق الذي تمر به البلاد، فإن السادة القضاة أضحوا أمام امتحان حقيقي لتجديد تأكيد استقلاليتهم التي تقتضي لامحالة انه لا سلطان عليهم سوى للقانون وضمائرهم، لأن القضاة يتحملون مسؤولية قرارات خطيرة للغاية في ظل وضع يتسم بعدم الاستقرار الامني ولا حماية لهم لا في مكاتبهم ولا خارجها فهم بحاجة الى حمايتهم بدورهم، كما من الجسامة بمكان أنه مطلوب من القضاة التحري والدقة وعدم خشية غير االله سبحانه وتعالى والقانون حتى لا يقعوا تحت ضغوطات طلبات الشارع. كما وجب جعل الجهاز القضائي بمنأى عن اي نشاط سياسي حتى لا يقع التأثير على قراراته والتي من المفروض ان تكون متسمة بالاستقلالية وعدم التأثر بالجانب السياسي اعتبارا لكون القاضي في نهاية الامر يبقى محايدا ويظل مختصا بالفصل في النزاعات التي تحصل بين الأفراد وبين مكوّنات المجتمع المدني من منظمات وجمعيات وأحزاب سياسية.