إن القضاة المشاركين في الندوة المتعلقة بمتطلبات القضاء التونسي خلال المرحلة الانتقالية والمنظمة من قبل جمعية القضاة التونسيين والمفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان والبرنامج الإنمائي للأمم... المتحدة يومي 27 و 28 جويلية 2011 وإذ يسجلون تردي وضع القضاء التونسي طيلة أكثر من خمسين سنة جراء غياب الضمانات الأساسية لاستقلال السلطة القضائية صلب دستور 1959 والقوانين الأساسية للقضاة العدليين والإداريين والماليين.وإذ يستحضرون مرارة الحقبة الماضية المتسمة بهيمنة السلطة التنفيذية على دواليب القضاء من خلال وصاية وزارة العدل على كافة المحاكم ومختلف المؤسسات القضائية وعلى القضاة أنفسهم بما مس من استقلالهم وحيادهم طيلة سنوات الاستبداد وما ترتب عنها من استباحة الحرمات والأعراض ومصادرة الحريات وانتهاك حقوق الإنسان بما أدى إلى إفراغ الساحة السياسية من القوى الحية أحزابا ومنظمات مجتمع مدني ونقابات..وإذ يعبرون عن استهجانهم لوجود مظاهر الفساد الإداري والمالي في مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسة القضائية طيلة السنوات الماضية جراء تحالف أصحاب النفوذ السياسي مع البعض من أصحاب الوظائف القضائية الهامة بوزارة العدل وبالمحاكم.وإذ يستلهمون من ثورة 14 جانفي 2011 التوجه نحو إرساء مشروعية جديدة لمؤسسات الدولة أساسها إدارة الشعب تحقيقا لمبادئ العدالة والمساواة والديمقراطية واستقلال القضاء قطعا مع النظام البائد. وإذ يعتبرون أن إعادة بناء القضاء التونسي لا تتم إلا بصياغة منظومة قانونية متكاملة تستند إلى دستور يكرس بصورة واضحة وجازمة مبادئ استقلال السلطة القضائية.فإنهم وفي انتظار صدور الدستور الجديد المنبثق عن ممثلي الشعب، يوصون بخصوص هذه المرحلة الانتقالية باتخاذ إجراءات عاجلة تهدف إلى ما يلي:أولا: رفع وصاية السلطة التنفيذية على القضاءثانيا: تطهير القضاء من رموز الفسادثالثا: توفير الضمانات اللازمة للقضاةأولا: رفع وصاية السلطة التنفيذية على القضاء:ويتم ذلك برفع وصايتها على القضاة (أ) وعن المحاكم (ب)أ) رفع وصاية السلطة التنفيذية عن القضاة: ويقتضي ذلك:) إلغاء امتياز وزير العدل إزاء القضاة المتعلق بنقلتهم (بمذكرات عمل) وتأديبهم (الإنذار الإحالة على مجلس التأديب) وسفرهم وعطلهم وإحالة مختلف اختصاصاته في هذا الشأن وفي ما يهم شؤونهم إلى مجلس أعلى للقضاء منتخب من قبلهم. ) وضع التفقدية العامة وإدارة المصالح العدلية والمعهد الأعلى للقضاء ومركز الدراسات القانونية والقضائية وبقية المؤسسات المهتمة بشؤون القضاة تحت إشراف مجلس أعلى للقضاء بالشروط الآنفة.) تكريس استقلالية النيابة العمومية عن وزير العدل والتخلي عن قاعدة التسلسل الهرمي التي تحكم عمل ممثلي الحق العام وذلك بالتنقيح الفوري للفصول من 22 على 25 م إج والقانون الأساسي الحالي للقضاة والنصوص ذات الصلة، وفي انتظار ذلك تخويل أعضاء النيابة العمومية إجراء التتبعات والإحالات على المحاكم دون قيد حتى يتم تتبع الجرائم المرتكبة من قبل رموز النظام البائد وضمان عدم الإفلات من العقاب.ب) رفع وصاية السلطة التنفيذية عن المحاكم: تبعا لبسط وزارة العدل نفوذها على المحاكم عبر رؤسائها وممثلي النيابة العمومية الموالين لها بالاستناد إلى النصوص التشريعية المنظمة أو عبر الممارسات التعسفية، يتحتم الشروع الفوري في فك الارتباط بين إدارة العدالة المركزية بوزارة العدل ومختلف المحاكم حفاظا على استقلاليتها وحيادها ويكون ذلك بواسطة: تمكين المحاكم العدلية من الإدارة الذاتية لشؤونها بمعزل عن وزارة العدل تمتيع المحاكم بالاستقلال المالي والإداري السماح بمشاركة وكلاء رئيس المحكمة وبقية القضاة في تسيير المحكمة وإدارتها واتخاذ القرارات صلبها تدعيم استقلالية فروع المحكمة العقارية عن المركز الأصلي من حيث التسيير الإداري والمالي وتنظير رؤساء الفروع برؤساء المحاكم الابتدائية تكريس استقلالية مجلس الدولة وذلك بإلغاء كل أشكال التبعية العضوية والمالية للوزارة الأولى وهو ما يقتضي الإلغاء الفوري للنصوص المكرسة للتبعية وإقرار آليات خاصة لإعداد ومناقشة الميزانية مباشرة أمام السلطة التشريعية رفع السرية عن تقارير دائرة المحاسبات والمحكمة الإدارية وتمكينهما من نشرها بصفة دورية بمعزل عن تدخل السلطة التنفيذية كإرساء الآليات الناجعة لمتابعة تنفيذ المقترحات والتوصيات الصادرة عنهماثانيا: تطهير القضاء من رموز الفساد:وهو ما يقتضي تحديد معنى التطهير(أ) وصيغه (ب) وبيان آلياته (ج)أ – معنى التطهير:يعني التطهير استبعاد القضاة المتورطين في إضعاف المؤسسة القضائية سواء بتكريس تتبعيتها للسلطة التنفيذية وتسخيرها لفائدتها أو بالعمل على تعميم مظاهر الرشوة والفساد صلبها. والفساد القضائي يحيل في واقع الأمر إلى سوء إدارة المؤسسة القضائية وذلك بإحلال قضاء التعليمات والأوامر محل القضاء المستند إلى حكم القانون والضمير لتغدو التبعية للإدارة والخضوع لها وتنفيذ تعليماتها المعيار الأساسي المحدد للمسار المهني للقاضي.أما الفساد المالي فقد ارتبط أساسا باستغلال النفوذ وتلقي الرشاوي لقاء أحكام جائرة وخدمات عدلية غير مشروعة، وكثيرا ما اقترن الفساد الإداري بالفساد المالي حيث عمدت إدارة القضاء في السنوات الاخيرة خاصة إلى تعيين الموالين لها بالوظائف الهامة التي تمكنها من تكريس أغراضها غير المشروعة واستخلاص المنافع المادية والرشى لقاء ذلك. هذا وقد أدى تلاقي مصالح أصحاب الفساد المالي والإداري إلى خلق منظومة متكاملة للفساد داخل الجهاز القضائي شوهت الصورة العامة للقضاء ولطّخت سائر القضاة غير المقدوح في نزاهتم.وتعتبر مظاهر الفاسد القضائي خطرا يتهدد الحقوق والحريات، وإن أي تأخير في محاسبة رموزه من أصحاب المسؤوليات بوزارة العدل وبالمحاكم يؤدي إلى تمكينهم في هذه الفترة الدقيقة من فرص إضافية لإصدار المزيد من الأحكام الجائرة أو إتلاف أدلة الجرائم التي اقتُرفت من قِبَلهم أو من قبل حلفائهم وشركائهم في العهد البائد.. فضلا عما يؤدي إليه من نزع الثقة في كامل الجهاز القضائي وعموم القضاة جراء شعور المتقاضين بعدم حصول تغيير جذري بالمنظومة القضائية والمدلل عليها ببقاء نفس الرموز بأماكنها ووظائفها، لذلك يكون التعجيل باستبعاد ممن يسيئون للقضاء من أوكد الأولويات.ب صيغ التطهير: عموما يمكن أن يتخذ التطهير الأشكال التالية:العقوبات التأديبية: والتي يمكن أن تبلغ أقصاها بعزل القضاة الثابت ارتكابهم أفعالا مجرمة قانونا ومخلف بشرف المهنة وأخلاقياتها.. العقوبات الجزائية: من أجل جرائم متصلة بالوظيفة القضائية كالارتشاء واستغلال النفوذ والاستيلاء على المال العام و...الاستبعاد من الوظائف والمسؤوليات واستبعاد كل من تخاذل في مقاومة الفساد وامتنع من ممارسة صلاحياته المخولة له قانونا تصدّيا للتجاوزات.هذا ولئن كان للتطهير أشكال عدة ومتنوعة إلا أنه يجب أن يترافق في كل الحالات مع المحاسبة وإظهار الحقائق والكشف عن الأطراف والشخصيات المشاركة والضالعة في الإساءة للمؤسسة القضائية، كما لا يمكن أن يؤدي الاستبعاد إلى التغاضي عن الجرائم المقترفة أو التغطية عليها وطمس ومعالمها وأدلتها كأن يقع الاكتفاء بنقلة القاضي المرمي بالفساد.ج آليات التطهير:تطرح مسألة محاسبة القضاة المتورطين في الفساد الإداري والمالي مشكل إقامة الدلائل والإثباتات للجرائم المقترحة، ويمكن اللجوء في هذا الخصوص إلى تقنية فحص القضاة كإحدى آليات العدالة الانتقالية والتي تقتضي اخضاعهم إلى اختبارات نزاهة وكفاءة بإجراء كشف دقيق لأملاكهم ومكاسبهم ومداخيلهم ومعرفة مصادرها فضلا عن دراسة ملفاتهم الشخصية من قبل إدارة القضاء وتلقي الشكاوى وسماع الشهادات المقدمة ضدهم سواء من قبل الضحايا أو الشهود أو زملائهم القضاة والمتعاملين مع المؤسسة القضائية. .كل ذلك في إطار قانوني شفاف ومحايد يضمن حق الدفاع ومبدأ الواجهة. وإن إنجاح أي عملية للتطهير يستدعي توفير جملة من المقومات القادرة على القطع تماما مع ممارسات النظام القضائي البائد، وتتركز هذه المقومات في كل الأحوال في: التعبير الجاد والفعلي عن إرادة سياسية حقيقية في التطهير إنجاز الدراسات المعمقة لمظاهر الفساد وأسبابها ودواعي وجودها ومواطنها والظروف الراعية لها خلق هياكل مراقبة خاصة بمظاهر الفساد القضائي خاضعة للمجالس العليا للقضاء المنتخبة صياغة مدونة سلوك للقضاة تشكل قواعد توجيهية تدعم نزاهة العمل القضائي واستقلاله تجريم كل تدخل والتأثير في سير القضايا أو التأثير على القضاة المتعهدين بها وقبول التعليمات في خصوصهاثالثا: توفير الضمانات اللازمة للقضاة:تتحقق الضمانات الأساسية للقضاة بتوفير الحماية القانونية لهم (أ) وبتدعيم إمكانات القضاء (ب)أ الحماية القانونية للقضاة:في انتظار وضع دستور جديد يكرس الضمانات الأساسية للقضاة كي يمارسوا مهامهم بكل استقلالية وحياد ودون هواجس التضييق والاستهداف والمعاقبة، وجب فورا تكريس المبادئ الكونية لاستقلال السلطة القضائية المنصوص عليها بالمواثيق والعهود الدولية سواء صلب قانون أساسي انتقالي للقضاة أو تكريسها واقعا وبصفة فعلية من قبل السلطة التنفيذية ليكون ذلك مؤشرا حاسما على جدية التوجه نحو اصلاح القضاء وتكريس استقلاله من عدمها. ويقتضي القطع مع المؤسسات القضائية البائدة التعجيل بتركيز مجالس عليا للقضاء تتخلى على قاعدة التعيين وتقوم على مبدأ انتخاب أعضائها من قبل القضاة وتوسيع صلاحياتها على نحو يُغَطي كامل المجالات المرتبطة بالمسار المهني للقضاة ويحقق الضمانات القانونية والفعلية اللازمة لهم، ولعل أهم المبادئ الواجب تكريسها بصفة قانونية أو فعلية دون إبطاء هي: مبدأ عدم قابلية القاضي للعزل والمبادئ المتفرعة عنه وأهمها مبدأ عدم نقلة القاضي إلا برضاه. مبدأ الترقية الآلية. النهوض بالأوضاع المادية للقضاة نأيًا بهم عن التأثيرات والاحترازات والشبهات. الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والأسري للقضاة وتجنيبهم النقل التعسفية والعقوبات المقنعة وعدم محاسبتهم إلا من أجل ما ينسب إليهم من أفعال تخل بنزاهتهم ومبادئهم. ب تدعيم إمكانات القضاء:بالنظر للرهانات المطروحة على القضاء التونسي اليوم المُطالَب بتصفية إرث الاستبداد والفساد المالي والسياسي للنظام البائد، وجب تمتيع المنظومة القضائية بموارد هامة وضخمة تناسب الوزر الملقى على عاتقها ويكون ذلك بما يلي: تعزيز الرصيد البشري للمحاكم بانتدابات جديدة لقضاة وإطار إداري وكتبة وذلك على مستوى مختلف فروع القضاء مضاعفة الاعتمادات المرصودة للمحاكم وتلبية حاجياتها المتزايدة وتطوير منظومتها المعلوماتية إيجاد الصيغ والآليات الملائمة لتسهيل الحصول على المعلومات المساعدة على كشف الحقائق بشأن جرائم وانتهاكات العهد البائد. وضع الضابطة العدلية تحت سلطة وإمرة القضاء والمحاكم والإسراع في إصلاح المنظومة الأمنية تدعيم التخصص القضائي والتكوين في الميادين المعقدة والمستحدثة كالميدان المالي والصرفي والقمرقي والتجاري والبنكي والمعلوماتي والانتخابي وقضايا الرشوة والفساد والتعذيب.. وانتهاكات الماضي عموما صياغة تصور جديد للمعهد الأعلى للقضاء يكرس معاني الاستقلالية والنزاهة والحياد ومبادئ حقوق الإنسان إعادة الاعتبار لمركز الدراسات القانونية والقضائية وتفعيل دوره في إعداد التصورات للنهوض بأوضاع السلطة القضائية إحداث فروع للمحكمة الإدارية بمختلف الجهات تقريبا للقضاء الإداري من المواطن لتمكينه من مقاضاة الإدارة المتعسفة في حقه دون عناء...وإعادة النظر في اجراءات نشر القضايا وتوزيعها بين الدوائر، كالعمل على تبسيط واختصار آجال التقاضي الإداري.. وإيجاد الحلول لمشكل تنفيذ الأحكام الإدارية وذلك بإحداث مؤسسة قاضي تنفيذ الأحكام لمتابعة تنفيذ أحكام المحكمة الإدارية من قبل الإدارة إحداث دوائر استئنافية للمحكمة الإدارية لمجابهة ضغط المنازعات الانتخابية المرتقبة إحداث دائرة مختصة بالدراسات بالمحكمة الإدارية لتوفير بنك معلومات لقضاتها العمل على نشر ثقافة استقلال القضاء وآليات تكريسه على نطاق واسعوفي الأخير فإن تعدد متطلبات القضاة التونسيين وكثرتها في هذه المرحلة الانتقالية لا تعكس طموحات قصوى ومبالغا فيها بقدر ما تشكل حدودا دنيا لتطلعات الثورة لقضاء مستقلجمعية القضاة التونسيين