فجّرت ذكرى وفاة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة فيضا من المشاعر المتدفقة والحنين الجارف الى هذا الزعيم الفارق والخالد في تاريخ تونس وفي ذاكرة التونسيين، حيث تداولت وسائل الاعلام والرأي العام الوطني الواسع هذه الذكرى بكثير من الافاضة والحميمية والاسترجاع لمسيرة الزعيم الراحل كأنّ بورقيبة مات لتوّه. ولسائل أن يتساءل عن سرّ هذه العودة القوية الى بورقيبة والى كل ما يرمز إليه خاصة في هذا الظرف التاريخي الحاسم والدقيق الذي تعيشه بلادنا. وفي تقديري يمكن التعاطي مع هذه العودة من خلال الأسئلة التالية: 1 هل أنّ الحنين الكبير والجارف الذي رافق احياء ذكرى وفاة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة مردّه المشاعر المكبوتة تجاهه خلال العهد البائد الذي طمس مماته مثل حياته؟ 2 هل السرّ كامن في إحساس التونسيين بالتقصير تجاه ذكرى الزعيم الراحل الذي كان احياء ذكرى وفاته في العهد البائد يتم بصفة ميكانيكية لا روح فيها لا تتعدى تلاوة فاتحة الكتاب على روحه الطاهرة في المنستير وتنظيم محاضرة جافة ومعرض باهت حول تاريخه أو جزء منه؟ 3 أم هل أنّ سرّ ذلك يكمن في البحث عن الشخصية الرمز التي توحّد المشاعر وتشكل مثالا وقدوة ومرجعا خاصة أن الظرف الراهن يتسم باختلاط السبل وبالحيرة العارمة إزاء الحاضر والمستقبل؟ 4 أم هل ينطوي السرّ على وعي التونسيين بأنّ الارث البورقيبي لم يُقرأ كما ينبغي أو بما لا يكفي، ويحتاج الآن الى اعادة استقراء وقراءة بمنزعيها السياسي والفكري؟ مرة أخرى إذن يصنع بورقيبة الحدث حيّا وميّتا بكل ما يختزنه من تاريخ وعبرة وحتى أخطاء. وقد تفطن التونسيون دائما الى هذا السرّ الكامن خلف الزعيم الراحل الذي ظل وشما في ذاكرة الجميع، لذلك احتفوا بذكرى وفاته كأبهى ما يكون الاحتفاء بزعيم افتك اعجاب الداخل والخارج منذ ظهوره على مسرح الفعل النضالي والسياسي واعتبر دائما أحد أبرز قادة العالم ممّن يتوفرون على كاريزما فائقة وشديدة التأثير. العودة الى بورقيبة هذه الأيام لم تفاجئ أحدا حتى وإن رافقتها الأسئلة لأن الرجل ظلم في حياته وفي مماته، حيث لا تنسى الذاكرة كيف تم تغييب موكب دفنه عن شاشة التلفزة التونسية والاستعاضة عن ذلك بشريط وثائقي حول عالم الطبيعة وهو ما أثار سخط التونسيين وخلف المرارة في نفوسهم، هذا في حين أن مراسم دفن العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني حظيت في وقتها بتغطية مثالية ومباشرة من التلفزة التونسية!!! وتلك مفارقة لا يعلم سرّها وكوامنها إلاّ المتحكمّون وقتئذ في مقادير القرار السياسي والمحركين لخيوط المشهد الاعلامي من وراء الستار. لأول مرة إذن منذ حوالي ربع قرن يعود الى الزعيم الحبيب بورقيبة اعتباره وتسترجع ذكراه ماهيتها الأصيلة على يدي شعب بأسره، ناضل مع بورقيبة وكبر مع بورقيبة وظلت أجياله المتعاقبة محبّة لبورقيبة. لا شيء إذن يفسر العودة الى بورقيبة هذه الأيام، ويبرّر طبيعتها إلاّ رمزية هذا الزعيم في ذاكرة التونسيين والقناعة الكبرى بأن احياء ذكرى وفاته لن تظل بعد اليوم معرضا وثائقيا أو محاضرة جافة أو زيارة رسمية محدودة الى ضريحه، بل هي فورة حنين ومشاعر دافئة متدفقة تحاول ترتيب أوراق الذاكرة من جديد على أساس العقل والانصاف وردّ الاعتبار لمن بدأ حياته مرفوعا فوق أعناق وهامات الجماهير وانتهى بتقرير طبي هو الأغرب في تاريخ التحولات السياسية في عالمنا. بورقيبة في نهاية الأمر أكبر من تقرير طبي، وأكبر من معرض وثائقي وأهم من محاضرة، إنه التاريخ الذي لا ينضب ولا يموت ولا يُنسى.. التاريخ الذي يفيد في استخلاص العبر والدروس ويشكل في ذات الوقت دافعا قويا لبناء مستقبل تونس وفق قواعد سليمة وأسس قويمة تضع بلادنا في مدار الرقي والتقدم على أساس الوطنية الفاعلة التي يتقاسم التونسيون الأدوار في صميمها، حتى لا تعود تونس الى غياهب الأخطاء والسقوط والمجهول وحتى يظل يوم 14 جانفي 2011 المنعرج الحاسم والحقيقي نحو بناء تونسالجديدة التي سالت من أجلها دماء أجيال من التونسيين سواء لنيل الاستقلال أو في سبيل الحرية والكرامة.