يكتسي إحياء الذكرى الحادية عشرة لوفاة الحبيب بورقيبة (3 أوت 1903- 6 أفريل 2000) قيمة استثنائية، فهي الذكرى الأولى بعد هروب بن علي وتفكك منظومة حكمه التي استمرت أكثر من عقدين والتي تحكمت في كل شيء يخص الحياة العامة للتونسيين من احتفالات وطقوس حزن بحساب على رحيل شخصية وطنية أو إحياء ذكرى وفاة... وقد تشكلت في مدينة المنستير- مسقط رأس الزعيم الحبيب بورقيبة الذي كان يطلق عليه لقب المجاهد الأكبر ومحرر المرأة (له الفضل في تحرير مجلة الأحوال الشخصية قبل الدستور نفسه بعد إستقلال تونس) لجنة لإعداد مظاهر إحياء ذكرى وفاة بورقيبة... وهي المرة الأولى التي سيسمح فيها لمن عرف "المجاهد الأكبر" ولمن أعاد اكتشافه بعد ثورة 14 جانفي المشاركة في إحياء ذكرى وفاة مؤسس الحزب الدستوري الجديد الذي حكم تونس طيلة ثلاثة عقود ليرحل دون أن يملك بيتا خاصا به... ولعل موجة البورقيبية الجديدة والسعي إلى إعادة الاعتبار إلى باني الدولة الحديثة –رغم كل ما يمكن قوله من طرف المناهضين لحكم بورقيبة– جعلتنا نتذكر مكتبا يحمل عدد 158 بنهج باب سويقة بمحاذاة نفق باب سويقة (أحد المشاريع البورقيبية التي لم تكن محل إجماع) كنا نمر أمامه بداية التسعينات متسائلين لماذا يظل المكتب مهملا وتلقى فيه قوارير الجعة الفارغة؟؟ ولماذا لا يتم تحويل هذا المكتب الذي شغله الحبيب بورقيبة محاميا بعد حصوله على الإجازة في الحقوق والعلوم السياسية من باريس سنة 1927 إلى متحف يحفظ جزءا من تاريخ تونس؟؟ *المفاجأة: لوحة المكتب اقتلعت بعد 14 جانفي... انتقلنا إلى باب سويقة معولين على ما بقي فينا من ذاكرة حية لبلوغ مكتب الحبيب بورقيبة... قضينا وقتا طويلا جيئة وذهابا نمر في ذات النهج الضيق وأمام بناية طلي بعضها حديثا (سنتبين لاحقا أن ما تم طلاؤه هو مكان اللوحة التي اقتلاعها)، شبه متأكدين أن المكتب المقصود هو الواقع في الطابق السفلي للبناية... ولكن أين اختفت اللوحة التي كتب عليها "مكتب الحبيب بورقيبة المحامي"؟ اخترنا أن نسأل أحد قدامى المنطقة فدلفنا إلى بناية هرمة خمنا أن يكون صاحبها من أولاد الحومة عارفا بتاريخها... لم يتردد محدثنا في الانقطاع عن النفخ في نرجيلته (الشيشة) ليؤكد لنا أن المكتب الذي نبحث عنه هو الذي شككنا في أمره، أما عن سر اقتلاع اللوحة فلا يملكه هو ولذلك دلنا على شخص آخر اسمه "علي" يملك مركزا عموميا للأنترنت ملاصقا لمكتب الحبيب بورقيبة... ودون تردد ذهبنا إلى وجهتنا... حين علم "علي" بهويتنا وعرف غايتنا لم يخف فرحته قائلا "وينكم شبيكم لتوة؟ من مدة نستناو فيكم تجيو" وكان يقصد أن ما حدث لمكتب الزعيم الحبيب بورقيبة كان يقتضي من الصحافة الوطنية أن تهتم بالموضوع قبل اليوم... وعلى الرغم من هذا الترحيب إلا أن "علي" الشاب الطيب المجتهد في عمله كان متحفظا في الحديث أمام حرفائه غير أنه تفضل بتوجيهنا إلى الشخص المناسب كما قال هو... وهذا ما حدث... حفيدة ابن أبي الضياف تدخل على الخط... وجهتنا التالية كانت دار الثقافة بباب سويقة حيث وجدنا مديرتها السيدة مريم النجار في انتظارنا... دون مقدمات شرحنا لها الهدف من زيارتنا بأننا نرغب في معرفة مالك البناية هل هي الدولة أو هي ملك فردي؟ ولماذا اختفت اللوحة من واجهة المكتب؟ وبلطف يليق بمديرة دار ثقافة بعد 14 جانفي، أفادتنا السيدة مريم النجار بما يلي" لقد كان مكتب الزعيم الحبيب بورقيبة مقر شعبة باب سويقة المعروفة بشعبة بورقيبة منذ منتصف التسعينات (هكذا احتفى التجمع الدستوري بزعيم الحزب الدستوري الجديد؟) وفي ظل الانفلات الأمني بعد 14 جانفي حاولت بعض الأطراف اقتحام مقر الشعبة للاستحواذ على كميات من الأغذية الموجودة فيه، ولتفادي ذلك بادرنا بتوزيع هذه المساعدات –وقائمة المنتفعين موجودة لمن يهمه الأمر- وظننا أن المسألة قد سويت ولكن يبدو أن بعض الأشخاص كان لهم هدف مغاير يتمثل في الوثائق الخاصة بالشعبة (وهنا لم نخف استغرابنا فأي قيمة لوثائق في شعبة حزبية؟ هل هي من قبيل وثائق البوليس السياسي؟؟ ولذلك يحرص البعض على استعادتها أو حرقها؟) وتكررت محاولات اقتحام المكتب، فاتصلت بوزارة الثقافة وقد استقبلني الأستاذ عزالدين باش شاوش في مكتبه وأذن لي بالتعاقد مع حارس للمكتب وهو ما تم في حينه... غير أن إحدى حفيدات أحمد بن أبي الضياف (1804-1874) ظهرت في الصورة بتعلة أن البناية هي من أملاك أحمد ابن أبي الضياف وقامت باقتلاع اللوحة التي ظلت صامدة منذ نهاية العشرينات من القرن الماضي تشهد على مرحلة من تاريخ أحد زعماء تونس وأول رئيس للجمهورية التونسية كما قامت هذه الحفيدة بإضافة باب حديدي للمكتب وغيرت أقفاله، أما الحارس الذي وضعته وزارة الثقافة للغرض فيكتفي حاليا بحراسة المكتب من خارج"... كانت المعلومات التي أفادتنا بها مديرة دار الثقافة باب سويقة مفاجئة لنا فما دخل أحمد إبن أبي الضياف وورثته في مكتب محاماة الحبيب بورقيبة؟؟ وحتى ما قيل لنا من أن ابن أبي الضياف هو من أهدى المكتب للزعيم لا يستقيم تاريخيا ذلك أن ابن أبي الضياف توفي سنة 1874 ولا يمكن أن يكون عرف بورقيبة أو التقى به ليهديه هذا المكتب؟ صحيح أن كثيرين أكدوا لنا أن البناية التي يقع فيها مكتب بورقيبة يتصرف فيها بعض ورثة أحمد إبن أبي الضياف (لمن لا يعرفه هو مؤلف كتاب "إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان" وقد كلفه الصادق باي بتحرير نص الدستور المسمى بعهد الأمان سنة 1859) ولكن أطرافا جديرة بالثقة أكدت لنا أن العقار عدد 158 بنهج باب سويقة غير مسجل بدفاتر الملكية العقارية ولا وجود لأي وثيقة تثبت ملكيته؟؟ وإن افترضنا جدلا أن المكتب على ملك ورثة أحمد بن أبي الضياف، فلا يحق لأحد أن ينكر عليهم ذلك ولكن هل تستعاد الحقوق بالاستيلاء في ظل ظروف مرت بها بلادنا بعيد الثورة وتغيير أقفال المكتب وتدمير لوحة شاهدة على تاريخ أول رئيس لتونس؟ ولماذا صمت الورثة طيلة أكثر من ثمانين عاما؟ ولماذا لم يطالبوا بمعينات الكراء من شعبة باب سويقة طيلة العشرين سنة الماضية؟ أسئلة كثيرة تزيد الملف غموضا خاصة إذا علمنا أن آل بن أبي الضياف قرروا بمناسبة الذكرى 23 للسابع من نوفمبر –حسب ما ورد في الصحف التونسية في تلك الأيام غير الزاهية– تشكيل لجنة تضم البعض من أحفاده وحفيداته وأصدقاء فكره الإصلاحي لإطلاق مبادرة يوم 29 أكتوبر 2010 تاريخ وفاة أحمد بن أبي الضياف تتضمن عدة فعاليات أبرزها على الإطلاق -وسننقل لكم ما نشر حينها حرفيا "مناشدة الرئيس المصلح زين العابدين بن علي الترشح لرئاسية 2014 باعتباره الوريث الشرعي لحركة الإصلاح التونسية "... فلماذا يفوت هؤلاء الورثة الفرصة على أنفسهم لتصحيح خطئهم، فوريث الحركة الإصلاحية لا يمكن أن يكون رئيسا سابقا هاربا، والأولى أن تحفظ ذاكرة رئيس حكم تونس _بصوابه وخطئه_ ومات فيها ودفن في أرضها ولم يشكك أحد بدءا بخصومه في ذمته المالية ونظافة يده... ولعل ما يزيد الأمر غرابة أن هؤلاء الورثة وفي مقدمتهم الحفيدة التي وضعت السياج الحديدي على مكتب الزعيم –وكأنها تستبق إحياء ذكرى وفاته- أمضوا عقد هبة لفائدة الملك العام للدولة التونسية بخصوص دار إبن أبي الضياف –التي تحولت بسبب الإهمال إلى مصب فضلات-؟ أليس حريا بمن فكروا في صون إرث إبن أبي الضياف أن يصونوا –إن ثبتت ملكيتهم للمكتب بطبيعة الحال- إرث الزعيم الحبيب بورقيبة؟ والدعوة موجهة لوزارة الثقافة وللأستاذ عزالدين باش شاوش وللهيئة الوطنية للمحامين –فبورقيبة محام والمحامون أولى الناس بالدفاع عن زميلهم- وللجنة إعداد الذكرى 11 لوفاة الزعيم وكل كل أصدقائه ومحبيه، للتدخل- بكل حزم- لتسوية الملف وإعادة الاعتبار للزعيم بورقيبة الذي راهن على "المادة الشخمة" للتونسيين ولم يخن ثقتهم حتى الممات...