٭ بقلم: الأستاذ الحبيب خضر (محام وجامعي) تعددت في الفترة الأخيرة المبادرات الداعية الى تبني ما سماه البعض وديعة ديمقراطية أو نداء من أجل التزام ديمقراطي وسماه آخرون ميثاقا جمهوريا وتنوعت الأسماء ولكن الفكرة تكاد تكون واحدة. يتلخص الجذع المشترك لهذه الأفكار في القول بأن المجلس الوطني التأسيسي لا يمكن أن ينجز مهمة صياغة الدستور في طلاقة تامة بل لابد من ضبط بعض الضوابط مسبقا لتكون ملزمة له في صياغته للدستور الجديد. وتثير هذه الفكرة أكثر من ملاحظة خاصة عبر التفاعل مع ما يقدمه متبنوها من تفاصيل وحجج للبرهنة على رجاحة أفكارهم. يقال أن من غير السليم تجاهل جملة من الثوابت التي ثبتتها الإنسانية في العصور الأخيرة والتي لم يعد الشعب التونسي يسمح بالنزول تحتها ويضرب مثال على ذلك مثلا الحق في حرية التعبير والحق في حرية المعتقد والحق في حرية الاعلام. هذه مضامين إيجابية بلا ريب ولكن، وبعيدا عن الدخول في تفاصيل النقاش للمضامين الواردة في هذه المواثيق نلاحظ أنه لا يوجد في أي منها تنصيص على أن من ضوابط العملية الديمقراطية ومن الضوابط التي على الجميع احترامها«الالتزام باحترام جميع الأديان وخاصة الإسلام بوصفه دين الغالبية الساحقة من الشعب التونسي وعدم تناوله أو تناول رموزه بالسخرية أو التحقير وعدم التجرؤ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى كافة الرّسل» وهذا التنصيص مهم لأنه بمنع تلك التطاولات غير المبررة التي يتعمد البعض ارتكابها ويسحب سببا للاحتقان،كما ان أيا من تلك المواثيق أو العهود المقترحة لم ينص على أن «اللغة العربية لغة البلاد الأولى إدارة وتعليما وأن النهوض لا يمكن أن يكون إلا بإيلائها المكانة التي تستحقها مع عدم القطع مع اللغات الأجنبية» ومثل هذا التنصيص يطمئن الثورة وأهلها الى أنهم ماضون فعلا في اتجاه القطع مع تيار فرنكفوني هيمن على البلاد طيلة أكثر من خمسين سنة وحاول تشويه هويتها الحقيقية أكتفى بهذين المثالين للدلالة على أن المواثيق المقترحة منقوصة في مضامينها. كما أن النصوص المعروضة تلتقي تقريبا في التذكير بمقتضيات العهود الدولية المتعلقة بحقوق الانسان على أنها من الثوابت التي لا يرقى إليها نقاش بل لقد قال أحدهم بأن شهداء تونس «مهروا» تلك المواثيق بدمائهم، أؤكد أن غالب مقتضيات تلك العهود محل قبول عام ولكن أليس عدد كبير من تلك المواثيق ينص على إلغاء عقوبة الإعدام؟ هل تفهم هذه النخب الثورة على أنها قامت من أجل إلغاء عقوبة الإعدام أو يعتقد هؤلاء بأن عائلات الشهداء تتشوف بشوق لإلغاء تلك العقوبة حتى يفلت القتلة ممن تعمدوا قنص أبناء الشعب البررة من العقاب العادل؟ هذا المثال يؤكد بأن تعمد إدراج مضامين فضفاضة في مثل هذه النصوص يفتح الباب على انحرافات خطيرة تحرم أهل الثورة الحقيقيين من عائلات الشهداء والجرحى من الإحساس بالعدل وبأن الدماء الزكية لم تذهب هباء. يتضمن ما سبق حديثا في الأصل مع التأكيد على أن النقاش في المضامين ليس الا من باب التدليل على قصور المقترح منها وليس قبولا بالنقاش في آلية تصادر حق الشعب في الاختيار من خلال ممثليه المنتخبين في المجلس الوطني التأسيسي المنتظر. فهذه الفكرة عن المضامين تبرز النقص والضبابية بشكل لا يتناسب مع تقديم هذه الوثائق على أنها إطار كاف لتنظيم العملية الديمقراطية في المرحلة الانتقالية فما بالك بالقول إنها ملزمة للمجلس التأسيسي. أما عن المبدإ في حد ذاته المتعلق بمدى مقبولية سن نصوص ملزمة للمترشحين الى المجلس الوطني التأسيسي أو للمنتخبين فيه، وهو الأهم،فيقال بأن من غير السليم إعطاء المجلس التأسيسي«قداسة ميتافيزيقية» على رأي أحدهم أو اعتباره «واحدا أوحد له كل السلطات»على رأي آخر والحجة في ذلك تبدو منطقية في ظاهرها وهي فرضية«ماذا لو قرر هذا المجلس الاعتراف بالكيان الصهيوني؟» حسب الأول وماذا لو «قرر إعادة بن علي الى «السلطة» أو اعتبر شهداء 14 جانفي مجرمين»؟ حسب الثاني ويبدو من الضروري لفت الانتباه الى أن على البعض من نخبنا أن تقلع عن وضع فرضيات وهمية منبتة عن واقعها وأن تكف عن التعامل مع شعبنا العظيم من منطلق الاستنقاص من مكانته ووعيه بلغت حد الحديث عن «الهلوسة» في وصف قسم من المطالبين بسن دستور جديد للبلاد وحد التخوف من أن يكون أعضاء المجلس«مجانين» ثم إن تلك الوجاهة الظاهرة للتخوف تزول بمجرد أن نعرف بأن الشعب الذي قام بالثورة وقدم الشهداء وفرض على بن علي الفرار ووقف قبل ذلك مع أهل غزة الصابرين الصامدين في وجه العدوان هو نفسه الشعب الذي سيذهب الى الانتخابات وهو نفس الشعب الذي سيفرز ممثليه في المجلس الوطني التأسيسي، ليكن الجميع على يقين أن هذا الشعب لا يمكن أن يرجع بن علي، اللهم الا لمحاكمته، ولا يمكن أن يعترف بالكيان الصهيوني ولا يمكن أن يتنكر لشهداء ثورة 14 جانفي، وكذلك الشأن لممثليه في المجلس التأسيسي فهم صورة تقريبية من الشعب ومواقفه، بل إن الشعب نفسه سيظل متيقظا ليتصدى لكل من يحاول أن يتذاكى عليه ويحاول أن يدس له السم في الدسم، والمعلوم أن البعض سيظل يقول«ولكن ماذا لو...» فأقول جازما آتركوا هذا الشعب يتعامل بطريقته مع من تسول له نفسه الانحراف بثورته ويقينا أن الشعب الذي استطاع بفضل الله اقتلاع بن علي رغم جذوره في الدولة تعود الى أكثر من خمسين سنة لقادر على التفاعل بما يليق مع أي منقلب لم يمض عليه إلا أشهر قليلة، خلاصة ذلك أن ادعاء البعض الحرص على ضمان مصلحة هذا الشعب من خلال هذه الوثائق التي يراد إكساؤها صبغة إلزامية ليس في الحقيقة إلا غطاء لإقدام جهة معينة تعيينا مريبا على سحب الصلاحيات بصفة مسبقة من أول سلطة منتخبة انتخابا حرا وشفافا في تاريخ البلاد. وتتجلى الرغبة في إجهاض استكمال الشعب لثورته وممارسة مهمة التأسيس للبناء عبر ممثليه المنتخبين من خلال ما سارع البعض من مهندسي هذه المبادرات بالإعلان عنه من خطوات موالية، فهؤلاء لا يريدون الوقوف عند ميثاق جمهوري أو التزام ديمقراطي بل يميلون الى مزيد إفراغ المجلس التأسيسي من محتواه، ويتحقق هذا المقصد من خلال القول بأن اختصاص المجلس التأسيسي يجب أن يكون «وضع الدستور فحسب وأن يكون تنظيم السلطات التنفيذية موضوع وفاق سياسي وطني خارج المجلس» بل وأكثر من هذا فإن المجلس مطالب حسب نفس الرأي بأن يكتفي بتغيير الشوائب غير الديمقراطية في دستور 1959 وهكذا إذن يصبح المجلس التأسيسي غير مخول لسن أي قانون آخر كقوانين المالية مثلا، وغير مخول لتعيين رئيس جديد للبلاد بعد 24 جويلية وتقتصر مهمته على ما يمكن وصفه بتعديل دستوري لدستور 1959 فهل يعتقد أصحاب هذا الرأي حقا أن هذا ما يريده الشعب؟ ثم لو كان الأمر كذلك فما مدعاة مجلس تأسيسي وحملة انتخابية وتنافس واقتراع يستوجب الوقوف في صفوف ستكون حتما طويلة وانتظار تحت أشعة الشمس الحارقة في تلك الفترة من السنة؟ أحاول أن لا أفهم لماذا يعمل البعض على إجهاض فرحة الشعب بانجازاته ولا أستغرب منهم أن يستكملوا سلسلة المقترحات «الحكيمة» بالدعوة الى إرجاع بن علي ليحكم «تحت شروط معينة وضمانات ديمقراطية». أقدم هذا الرأي لعامة الشعب لينتبه الى خطورة ما يحاك، كما أقدمه لكل المخلصين من أعضاء الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي لرفض مناقشة هذه الوثائق إن كان الغرض من المناقشة صياغة نص له صبغة إلزامية مستقبلية أيا كان مستواها وألفت النظر الى أن المؤاخذات على هذه المقترحات عديدة جدا وقد تكون لنا عودة للوقوف على البعض الآخر منها في قادم الأيام بإذن الله تعالى.