اليوم العالميّ للشغل أو عيد العمّال اكتسب هذه السنة مذاقًا مختلفًا وخاصًّا في ضوء الثورة التونسية، التي اندلعت لأسباب كثيرة ولتحقيق مطالب أساسيّة عديدة، في مقدّمتها الحريّة والكرامة والشغل. من هذا المنطلق نحن أمام فرصة تاريخيّة ونادرة لإعادة النظر في رؤيتنا للعمل وشروطه وآليّات تدبيره وتطويره بوصفه جزءًا من رؤيتنا لبنية المجتمع ككلّ، وليس بوصفه مواجَهَةً لمشكلة البطالة فحسب. إنّ معالَجةَ مشكلة البطالة في ضوء خيارات اقتصاديّة واجتماعيّة مُعيّنة، خيارٌ عقيم، لا نتيجةَ له (وأسواق الشغل العالميّة من حولنا تؤكّد ذلك) سوى ترحيل المشاكل وتحويل الدولة إلى آلةٍ هائلة لإنتاج المزيد من العاطلين. في الغرب ترتفع الدعوة إلى التشغيل على قياس ارتفاع نسبة طرد العمّال. ولعلّ البعض يتذكّر حصول الفرنسيّ ريمون بار على جائزة الفكاهة السياسيّة لقوله: الحلّ الوحيد لمشكلة البطالة هو العمل! وكيف أجابهُ أحد الماكرين: حسنًا. وكيف نجعل العمل مصدرًا للطاقة المتجدّدة؟! في سياقنا التونسيّ نظّمت «جمعيّةُ أصحاب الشهائد العاطلين عن العمل» بجهة بنزرت مسيرة للمطالبة بحقّ الشغل تحت شعار: «عيد الشغل بلا شغل». وهو شعار مغموس في مرارة الواقع، يطلق جرس الإنذار مرّة أخرى، مستندًا على حقيقة الأرقام المُخيفة التي تقول إنّ ما يناهز 300 ألف من خرّيجي الجامعات التونسيّة عاطلون عن العمل! بل لعلّه ليس شعارًا بقدر ما هو صرخة في وجه الكثير من الشعارات الكاذبة التي رُفعت على امتداد خمسين سنة. ومن بينها شعار «الجدّ في القول والإخلاص في العمل»، الذي لم يمنع القول من الدجل ولم يمنع إنتاجَ ما أسمته آرندت ذات يوم «شعب من الشغّالين بلا شغل»!! المشكلة أنّ الاقتصاد التونسيّ اليوم ضحيّة عقود من «اللاسياسة» الاقتصاديّة و«اللاسياسة» في المُطلق. وكيف للمافيا أن يكون لها سياسة؟! ممّا صنع من العمل «عريسًا» منشودًا ومُمَجَّدًا لكنّه بالضرورة «أندر من الكبريت الأحمر». وكيف لفاقد الشيء أن يعطيه؟! هذا الواقع المرير لم ينشأ عن طريق المُصادفة، بل هو ثمرة طبيعيّة لخيارات خاطئة لم يسمح الاستبدادُ للشعب بنقدها واستبدالها. كما أنّها نتيجةُ قراءةٍ مُتكلّسة للعمل كمفهوم وكرؤية آن الأوان لتحيينها في ضوء مستجدّات العصر. المنظومة الاقتصاديّة الحاليّة والفهم السائد للعمل حتى اليوم لا يمكّنان من إيجاد حلول جذريّة لمشكلة البطالة. ومنتهى ما نراه في هذا السياق حلول ترقيعيّة لامتصاص الغضب سرعان ما تتّسع فتوقُها على الراتق لتفضي إلى غضب أشدّ. مع استبعاد القِيم الحضاريّة الأساسيّة من الخطاب المهيمن وسيطرة الأخطبوط المافيوزي على كافّة دواليب الدولة والمجتمع، تزامنَ الداءان: فقدانُ العمل اعتبارَه كقيمة، وإدمان الاقتراض كعلاج وهميّ للأنفلونزا الاستهلاكيّة. هكذا أصبح العملُ جزءًا من منظومة الفقر. وصحّ ما ذهب إليه بودريار حين قال إنّ نظام الاقتراض يعود بنا إلى وضعيّة الإقطاع، حيثُ العملُ مُستَعْبَدٌ، وحيث نحن مدينون مسبقًا بجزءٍ من عملنا إلى «السيّد». منذ خمسين سنة ونحن نتعامل مع العمل وتوقيته ومدّته ومردوديّته ومكافآته، ومع فلسفته بشكل عامّ، من هذا المنظور القديم الذي أنتجته الدول الصناعيّة وصدّرته إلى مستعمراتها القديمة والجديدة، فإذا نحن نطبّق مواصفات مستوردة غير نابعة من ظروفنا وخصوصيّاتنا. شهدَ الغربُ تطوّرات لم نشهد أغلبها أوصلته إلى تطبيق تلك المواصفات. ثمّ شهدَ تطوّرات أخرى بعضُها خاصٌّ به وبعضُها كونيٌّ مشترك، جعلته يعيد النظر شيئًا فشيئًا في الكثير من مسلّماته السابقة وتحديدًا في نظامه الرأسماليّ ككلّ. دخلت العولمة على الخطّ. وحدث الصدام المُتوقّع بين الطاقة الشغيلة وطاقات التكنولوجيا الحديثة. وأنتجت الطفرة الإعلاميّة تراتبيّةً أخلاقيّة واجتماعيّة جديدة. وشيئًا فشيئًا اتّسع الشرخ بين العمل كوسيلة والعمل كقيمة. هكذا فرضت مسألةُ ديمومةِ العمل نفسَها بعد أن كانت في حكم البديهيّات. وظهرت مشكلة التقاعد. واتّسعت رقعة العمل الجغرافيّة على حساب رقعته الفرديّة. وتفاقم تأثير العمل على الحياة الأُسَريّة. وبرزت تجلّيات أخرى للتمييز تجاوزت معايير التمييز الكلاسيكيّة. فأين نحن من هذا الجدل الضروريّ؟ جدلٌ انتقل من معالجة مشكلة العاطلين إلى مناقشة سياسة التربية والتعليم، ولم يعد مقتصرًا على مطلب التشغيل بل أصبح محور صراع فكريّ عميق من أجل إعادة النظر والتفكير في الهرميّة القِيَميّة التي ينبني عليها نسيج المجتمع. وهو ما أرجو أن أراه هذه الأيّام. فأمامنا اليوم فرصة نادرة لتغيير المفاهيم والبُنَى وتشييدها على أسس جديدة. وأمامنا حقًّا فرصة نادرة لغراسة شعار «التشغيل» في أرض الواقع. إلاّ أنّ الأمر يتطلّب تغييرًا بنيويًّا لمفهوم العمل وأرضيّته وشروطه. أمّا في غياب ذلك فإنّه يظلّ مجرّد صرخة في وادٍ، أو نوعًا من المُفارقة الاحتفاليّة.