طلب لقائي فالتقينا وهو المخرج التلفزي الكبير الذي له خبرة 30 سنة الى حدّ الآن في العمل بمؤسسة الاذاعة والتلفزة. لقد طلب لقائي ليحكي لي عن وضع التلفزة قبل وبعد الثورة، خاصة وهو واحد من جنود الخفاء الذين حرّروا نشرة الأخبار بعد الثورة من رتابة التقارير المملّة الى تغطية الأحداث.. كل الأحداث على كامل تراب الجمهورية بنزاهة وشمولية، فضلا عن إخراج حصص عديدة وجدت الظلّ الوارف في قلوب وعقول مشاهديها لكن وقع تهميشها في العهد البائد. علما أن السيد محمد سيدية هو مخرج صاحب شهائد عليا في الاخراج، ولكن طيلة 30 سنة، لم يأخذ الفرصة حتى لإخراج مسلسل تلفزي واحد وتلك حكاية يكشف عنها في هذا الحوار المتدفق. قلت للمخرج محمد سيدية: كيف كان حال التلفزة قبل الثورة وكيف حالها الآن؟ أصارحك أيها الصديق بأن في التلفزة عقولا سياستها الاقصاء والتهميش والتسطيح والمحسوبية، فلا تحسبنّ أن تلك العقول خلقت عبثا، بل وجدت لكي «تطبّل وتزمّر» وتعمل لحساب شخص واحد، هو «رئيس الدولة» المخلوع، ولقد كنت أرى أن من كان يشرف على إدارة التلفزة يصطفي لونا من التطرّف أو الإغراق يقصد به تغليب وضع على وضع طوعا ومؤتمرا بما يطلب منه الشيء الذي همّش عملية الابداع وتأثيث البرامج الهادفة في التلفزة. كانت التلفزة نهبا لمن ليس أهلا للفعل الابداعي، فلقد استبيحت فضاءاتها من طرف هؤلاء الذين ليس لهم في العير أو في النفير في مجال الاختصاص السمعي البصري. ولقد كنت أؤثر أن يترك للمخرج التلفزي حريته يستجيب لما يشاء، ولا استجابة إلا إذا صدق الاستيحاء، ولا فن مع التكلّف، ولقد كنت أقول رأيي بصراحة، ولكن رأيي بالطبع لم يكن يعجب وهو ما جعلني عرضة للتجميد والتهميش رغم أن شهائدي العلمية أكثر وأكبر من شهائد مدير التلفزة ذات نفسه. هذا قبل الثورة، أما بعد الثورة فلم يتغيّر الشيء الكثير، فالرئيس المدير العام همّش قطاع الاخراج والانتاج سابقا قبل 14 جانفي، وها هو يواصل بنفس الطريقة في بناء الجدار العازل أمام الشباب المختص الذي ينتظر فرصته ويقوم بتعيينات عشوائية في الادارة لا تخدم المؤسسة بتاتا، وهذا معناه غياب الشفافية والمصداقية، وان الربط مع مسؤول عرف سابقا بتهميش القطاع، لا يمكن بالطبع أن يؤسس لمستقبل أفضل، وعليه يجب مراجعة جدية لهذه المؤسسة على كل المستويات لإنقاذها من الفشل ولبناء أهداف الثورة بوضع هيكلة علمية وصحيحة تقطع مع الماضي الهدّام، وتؤسّس لحاضر واضح المعالم، ولمستقبل يصبو الى النجاح بهذا القطاع الذي أصبح ضروريا في حياة الانسان وسياسة البلاد. هل عندنا حقّا مخرجون أكفّاء لإدارة أعمال درامية ضخمة؟ آه بالطبع، ولكن سياسة التهميش التي اصطفاها بعض مسؤولي التلفزة قضت على ملكَة الابداع لديهم، ولم يعد سرّا أن أقول ان الأعمال الدرامية كانت توزع على بعض المخرجين بواسطة «الأكتاف» والمحسوبية.. كانت تعطى بطريقة «من لا يملك يعطيها لمن لا يستحق». لم يكن لمخرجينا الأكفاء والمستنيرين، والمثقفين حقّ الاجتهاد والابداع والابتكار، وأنا واحد منهم، فقد بوتقوني في حصص تلفزية حاولت قدر الجهد الابداع فيها مثل «شارع الثقافة» الذي لم يعد يقتصر على «ثقافة العاصمة» فقط، بل جعلته يجوب داخل الجمهورية ليبرز الفعل الثقافي في تلك الجهات، لكنهم همّشوه و«شلّكوه».. كل برنامج هادف.. يقزّمونه.. أو يعرقلونه. كانت تلك سياسة التلفزة.. أمّا برامج القمار والعبث وقلّة الحياء فإنهم يدعمونها ويجدون لها المساحات والوقت والتجهيزات، هكذا رغبة في تهميش المشاهد واللّعب على عواطفه وغرائزه. هل حقا التجهيزات محدودة في التلفزة؟ آه التجهيزات محدودة جدا، ورغم قلّة الامكانيات فإن الأولوية كانت للخطاب الرئاسي المنمّق، كانت التجهيزات في خدمة السلطة والنظام ثم دخلت شركة «كاكتوس» على الخط فأجهزت على البقية الباقية من عمل التلفزة، فأصبح «من لا يملك يتحكّم في من يملك» و«من لا يملك يعطي لمن لا يستحق» وهكذا ضاع الابداع وضاع العمل التلفزي البنّاء وراء تحقيق رغبات ومصالح ضيّقة جدا. إني أعتبر التلفزة أشبه ب«خنقة» تسودها الهمجية وتحكمها عصابات وعصابات وشبكات وشبكات وان الداخل الى التلفزة كان وكأنه يمشي على الشوك بسبب سياسة التهميش والاقصاء والاستفزاز والمحسوبية. وما الحلّ إذن.. وهل من خروج من هذه الأزمة يا حضرة المخرج؟ الحل في حلول عديدة، وإجراءات فاعلة وعلى رأسها وضع الرجل المناسب في المكان المناسب والاحتفاء بأهل الاختصاص وتقسيم الأدوار وإعطاء كامل الحرية للفعل الابداعي. فالعمل التلفزي لا يمكن أن يبرز أو ينجح في غياب المختصّين وعلى جميع المستويات. يجب أن تكون لنا تلفزة وطنية مستقلة بذاتها، ويجب أن نحرّر العقول فيها من الحسابات الضيّقة والمصالح الآنية. إن مؤسسة التلفزة تنقصها إدارة فاعلة وإدارة مختصة وعلى الحكومة المؤقتة والحكومة اللاحقة أن تلتفت الى هذه الناحية. يجب أن نفسح المجال الآن للشباب المختص حتى يبدع وينتج ويفكّر ويبتكر ويساهم في تغيير العقليات المتحجّرة والتي تكلّست بمفعول الأوامر وسياسة «إكذب ونافق»! يجب أن يجلس أهل الدار في حوارات هادئة ورصينة وبناءة للتفكير في الخروج من هذا الوضع المحبط والمثبط للعزائم. وكم أتمنّى أن أعطى الفرصة وأنا على أبواب التقاعد لإخراج مسلسل واحد يتيم بفعل سياسة الاكتاف التي كانت منتهجة في السابق. كيف تختم هذا اللقاء؟ رغم أني كنت سبّاقا في الاصداع برأيي حول ما يحدث في التلفزة منذ سنة 1993 وهو ما جلب إليّ ويلات التهميش والاقصاء فإني بحمد اللّه قد وفقت في إنجاز وإخراج عدة برامج وحصص تلفزية وأذكر على سبيل الذكر والمثال «شارع الحرية» و«الشوط الثالث» و«القصة للجميع» والآن «فضاء الأسرة» قلت ومع ذلك خاصة أني أملك من الكفاءة العلمية والخبرة الفنية الشيء الكثير فإن غيرتي على مؤسستي هي التي جعلتني أصدع بالحقيقة سابقا، وأصدع بها لاحقا، وأقول ولا أملّ من القول.. إن مؤسسة التلفزة تنقصها إدارة مختصة وينقصها قرابة ال30 مساعد مخرج، وينقصها شبان من أهل الاختصاص لأخذ المشعل علينا.. فلعلّ الثورة المباركة تحقق لنا هذه المطالب والمكاسب وباللّه التوفيق.. فلقد «هرمنا» ولكن إدارة التلفزة لم تراع لنا حقا ولم تعمّق لنا رغبة في التأسيس لمشهد إعلامي متوازن وهادف يخاطب العقول، بدل الغرائز!!