عندما اندلعت الثورة في ليبيا في 17 فيفري 2011، كان الذين صدقوا أن ليبيا تشهد ثورة قلة قليلة، أما الذين تنبؤوا بنجاح تلك الثورة فكانوا أقل. ورغم ذلك فها هي الثورة الليبية تجتاز شهرها الثالث وتشرف على دخول شهرها الرابع، ولقد استطاعت بداية الصمود الذاتي متحدية قوة وتصميم العقيد القذافي، ثم إنها اعتمدت على مدد دولي تمثل في القرار 1973 لمجلس الأمن، على خلفية ما برز من تولي الحكم الليبي مواجهة الثوار بقوة نيران الطيران والمدفعية والدبابات في حرب مواجهة غير متكافئة، ومن هنا اختلفت الثورة الليبية عن الثورة في تونس أو في مصر. ولقد أصبح بعد مرور هذا الوقت لثورة ليبيا قدم راسخة في جل المنطقة الشرقية، وأيضا في مناطق متعددة من الغرب الليبي بداية من مصراتة التي لم تستطع القوات النظامية للعقيد الليبي إخضاعها أو كسر شوكة تصميمها ، وكذلك عدة مدن أخرى بما فيها السيطرة الكاملة على منطقة الحدود مع تونس، ومن هنا فإن الدولة المركزية في طرابلس قد تآكلت سيطرتها على الإقليم أحد شروط الدولة ذات السيادة واستمرارها، بعد أن أفلت من يديها زمام الأمور على جانب مهم من الحدود الشرقية مع مصر والحدود الجنوبية مع تشاد والحدود الغربية مع تونس. ومهما قيل عن طبيعة هذه الثورة، وما إذا كانت تمثل ثورة شعبية بالمفاهيم التي تقوم عليها تقليديا الثورات، أو إذا كانت تمثل حربا أهلية بتدخل خارجي، فإن الواضح هو: 1/ أن الثورة الليبية بصدد تسجيل نقاط مهمة تقودها على ما يبدو للفوز والحلول على رأس الدولة محل نظام العقيد القذافي بعد أن استمر 42 عاما. 2/ أن نظام العقيد القذافي بصدد التحلل إن لم يكن فقد ركائزه كنظام حكم، بعد أن فقد شرعيته وحتى مشروعيته باعتبار أنه وجه أعتى الأسلحة ضد صدور شعبه ما انتهى به إلى قتل حوالي 10 آلاف مواطن في أدنى الاحتمالات، مع الملاحظ أن عدد الشهداء في تونس لم يتجاوز أكثر من 250 وفي مصر 800 شهيد أي 0.02 في المائة من مجموع عدد السكان، وإذ يعتبر أن قتيلا واحدا كثير كثير ، فكيف إذا شمل التقتيل 0.2 في المائة من عدد السكان. ومن هنا فإن كثيرا من المراقبين يعتقدون أن أيام نظام العقيد لم تعد الآفاق أمامها كبيرة، خصوصا وقد أخذت أعداد «الأوفياء» المنفضين من حوله من كبار مسؤوليه تزداد يوما بعد يوم. أما على الصعيد الدولي فإن الذين كانوا واثقين من أن نظام العقيد سيصمد، كما فعل إلى حدّ الآن خلال عقود متلاحقة، قد بدأ يصيبهم اليأس ويلحقهم الشك في مستقبل بقاء العقيد القذافي على رأس الدولة الليبية، إن كان يمكن أن يسمى جهاز الحكم في ليبيا دولة في غياب مقومات الدولة بتعريفاتها المتعارف عليها، وهي الإقليم والسكان وجهاز دولة. ولعل مثال روسيا التي تبدو وكأنها أسقطت من حسابها العقيد ، واستدارت ب180 درجة إن لم يكن 360 لأكبر دليل، ولنترك جانبا عديد الدول الإفريقية بما فيها ما يسمى بالإتحاد الإفريقي الذي بقي مخلصا للعقيد بحكم المنفعة، وبحكم الحياء أيضا، فإن موسكو تمثل مثلا لا بد من الوقوف عنده في هذا الظرف الذي يشهد متغيرات عميقة في دولة مهمة مثل ليبيا. وبداية انخرطت روسيا في تأييد كامل للعقيد وللسلطة الليبية، وهي لم تستعمل حق الفيتو لإسقاط القرار 1973 الذي مكن الغرب من وضع منطقة حظر طيران ، سرعان ما توسعت إلى ما لم ينص عليه ذلك القرار، وبلغ الأمر أن وصف رئيس الحكومة بوتين التدخل الغربي بأنه يمثل حربا صليبية، إلى الوصول على لسان رئيس الجمهورية مدفيديف بأن الحكم الليبي بات فاقدا للشرعية واستنتاجا ينبغي عليه أن يرحل. فماذا وراء هذا التطور إن لم يكن الانقلاب في الموقف الروسي، الصديق التقليدي لليبيا.؟ أمران يمكن أن يفسرا الموقف الروسي الجديد بعيدا عن القول بأنه موقف مبدئي: أولهما أن روسيا أدركت أن العقيد هو بصدد تقطير ساعاته كما يقول المثل التونسي، وأن العقار لم يعد ليصلح ما أفسده الدهر كما يقول مثل آخر. وثانيهما أن روسيا لا تريد أن تكون آخر الملتحقين وربما بعد الوقت المناسب، فتخسر تماما كل موقع يؤهلها غدا في اقتسام الكعكة الوافدة عندما يحين موعد إعادة تعمير ليبيا بعد الدمار الذي أصابها سواء بسبب تقاتل «الإخوة الأعداء» أو بسبب القصف المدمر الذي تشهده المناطق التي ما زالت بيد العقيد. ولعل روسيا وبحكم الوفاء لرجل ما فتئ منذ سنوات طويلة يتزود بالأسلحة المكلفة والسلع المختلفة مما يجعل طرابلس سوقا مسيلة للعاب ، تود أن تكون غدا في موقع جيد للمفاوضة حول استضافة العقيد في حالة رحيله، وضمان عدم تسليمه إلى المحكمة الدولية الجنائية بعد أن صدرت ضده وضد عدد من مقربيه بطاقات جلب. فالعقيد القذافي وبعكس الرئيس العراقي السابق صدام حسين الذي عرض عليه رئيس الوزراء الروسي الأسبق بريماكوف أن تستضيفه روسيا ، فرفض بأنفة ظنا منه أن الحرب (حرب سنة2003) لن تقع، وعلى فرض وقعت فإنه يستطيع أن يصمد إلى ما لا نهاية في حرب على الأرض وليس بالذراع الطويلة من السماء طائرات وصواريخ، إذن فالعقيد القذافي مؤهل للقبول بمنفى ذهبي في العاصمة الروسية، خصوصا أن ثقته في زملائه الرؤساء الأفارقة الذين قد أغدق عليهم الكثير تبدو جد محدودة إن لم تكن منعدمة. ولعل دخول روسيا على الخط، مطلوب أمريكيا أوروبيا حتى لا يرتمي العقيد القذافي في أحضانهم مما يوجب محاكمة في لاهاي كم تبدو محرجة للغرب وإن كان يطالب بها الثوار في ليبيا بكل إلحاح. إذن فالاستنتاج الطبيعي هو إحساس روسي كبير بأن الثمرة نضجت وبأن سقوطها بات في وقت معلوم مما يستوجب التحرك السريع، وهو أمر ليس مرفوضا أطلسيا بل لعله يحل الكثير من العقد. ٭ كاتب صحفي رئيس تحرير سابق